تخطى إلى المحتوى
آخر الأخبار
الرئيس الأسد يتلقّى برقيات تهنئة من قادة ورؤساء دول عربية وأجنبية بمناسبة الذكرى الثامنة والسبعين لع... الجلاء في ذكراه الثامنة والسبعين… تكريس الاستقلال وخيار المقاومة الرئيس الأسد يؤدي صلاة عيد الفطر في رحاب جامع التقوى بدمشق الرئيس الأسد يؤكد خلال لقائه عدداً من كبار علماء الشام دور المؤسسة الدينية بترسيخ الاستقرار من خلال ... الرئيس الأسد والسيدة الأولى يشاركان في إفطار جماعي بالمدينة القديمة في طرطوس الرئيس الأسد يلتقي المدرسين الفائزين بالمراتب الأولى في المسابقة العلمية التي أقامتها وزارة التربية الرئيس الأسد يلتقي ضباطاً متقاعدين: استثمار النضج والمعرفة والخبرة المتراكمة لخدمة الدولة والمجتمع الرئيس الأسد خلال لقاء مع أساتذة اقتصاد بعثيين من الجامعات العامة: الدعم يجب أن يبقى والنقاش لا يتم ... الرئيس الأسد يصدر القانون رقم ( 12 ) الخاص بحماية البيانات الشخصية الإلكترونية الرئيس الأسد يصدر مرسومين بتنفيذ عقوبة العزل بحق ثلاثة قضاة

يتابع موقع بانوراما طرطوس نشر رواية( نبضُ الجذور) للأديبة فاطمة صالح صالح- الجزء الرابع والعشرين والجزء الخامس والعشرين

 12033549_954955724592396_544613874_n-225x3001كان أبي قد وَسّعَ تجارَته، إلى أن صار عندنا مَتجَرٌ كبيرٌ، نبيع فيه كلّ شيء، ابتداءً من البالي، الذي كان أبي يُحضِره لأمي بأكياسٍ كبيرة.. فتفرزهُ وتغسله، وتجفّفه، وتكويه، وتعلّقه، بمُساعدة أبي، على مشجبٍ أعَدّها أبي، في المَتجَر.. فيُقبِلُ الناسُ على شرائهِ، حتى أكثر من الجديد، الذي خصّصت له الجهة المُقابلةمن المَتجر…

هناك، أيضاً، مُتّسَعٌ لأنواع وأشكال متعددة من الأحذية القديمة والحديثة، للنساء والرجال والأطفال.. وركنٌ آخر للأدوات المنزلية، وتجهيز العرائس، وفَرش بيت الزوجية من كلّ مايتطلّبه ذلك من حاجيّات.. خزائن، وفرش، وأسِرّة، وأغطية، وأوانٍ للمَطبخ، وكل مايخطر على البال…

مَرّة، جاءنا خطيبان، ليُجهّزا بيت الزوجية.. وبعد أن اشترَيا كلّ حاجاتهما، وقفا يتساءلان – قبلَ أن يصطحبهما أبي في شاحنته الضخمة، إلى دارِهما – : هل نسيا شيئاً..؟! فسارَعتُ، أنا الصغيرة، إلى تكيرهما بشيءٍ مُهِم :

-نسيتما سَريرَ الطفل…

ممّا أثارَ ضحكهما، وضحِكَ الجميع…

لكنّ الأمرَ لم يطُل بهما سوى عدّة أشهُر، عادا بعدها إلى مَتجرنا، ليسألا عن تلكَ الطفلة الذكية، التي – لو استمَعا لنصيحتِها – لما عادا الآن…

12717853_954624567958845_1837320488439438027_n-225x3001اكتسَبَ أبي وأمي ثقةَ ومَحبةَ الجميع، من جيران، وأقارب، ومَعارف، أجانب، وعرَب…

كان جيراننا، ومعارفنا الأجانب، يُطلِقونَ على أمي اسم (سانتا ) أيّ (القدّيسَة )، لحُسنِ تعامَلها معهم.. وقد أخبرَنا أبي أنها عندما سقطت عن الكرسيّ الهَزّازِ، دون حِراك.. ظنها ماتت.. حاوَلَ إنهاضَها، لكنه لم يستطِع.. فخرَجَ إلى الشارع، وإذا بشابٍّ يركب “موتوسيكلاً “.. فناداهُ طالِباً مُساعَدَتهُ، ففعَل.. وأسعفوها إلى المشفى، حيثُ أعلنَ الطبيبُ أنهُ الفالِج.. بقيَت في ذلكَ المَشفى عدة أيام، قبل أن يُخرِجَها أبي، ليعتني بها وحدَه في البيت.. يحَمّمُها، ويجفّف لها جَسَدَها، يطعِمها ويسقيها بيدَيه، ويغيّرُ لها ثيابَها المُلوّثة.. يُسرِّحُ لها شَعرَها، يمسَحُ على وَجهها، يقبّلها من رأسِها، راجياً إياها – بكلِّ ما أوتيَ من قوّةِ الحبّ، والحَنان : – لاتتركيني وَحيداً، يا سَكينة… أرجوكِ يا سَكينة… فأنا غيرُ قادِرٍ على العَيشِ بَعدَكِ….!!

لكنها ترَكتهُ، بعدَ عامٍ كامِلٍ من المرَض.. صباحَ أحدِ الأيام.. وغادَرَتْ هذهِ الدنيا، غيرَ آسِفةٍ إلاّ على رؤيةِ أبنائا وبَناتِها…..

اجتَمَعَ الجيرانُ، الذين كانوا يحاولون مُساعدةَ العجوزِ على العِنايةِ بزوجتِهِ المَريضة… وكثيراً ماكانوا يُلِحّونَ عليهِ بالرّجاءِ أن يسمَحَ لهم بغسيلِ ثيابِها.. وعندما يسمَحُ لهم، نتيجةَ إعيائهِ الشديد، ينقلون الثيابَ إلى بيوتِهم، ليغسِلوها.. لكنهم لا ينسونَ أن يتركوا قطعةً من ثيابِ (سانتا سَكينة ) غيرَ مَغسولة، تفوحُ منها رائحةُ عَرَقِها، برَكةً في بيوتِهم.. ذِكرى إنسانةٍ جميلةٍ، حَنونة، دافئة، مؤمِنة.. مَنَحَتهمُ الأمانَ والسلام، عَشَرات السنين.. مُحاوِلينَ أن يُطيلوا بَقاءَها معهم أطوَلَ مدّةٍ مُمكِنة………

اجتمَعَ الجيرانُ والأقاربُ والمَعارِف، من كلِّ أصقاعِ الأرجنتين، وبعضِ دوَلِ أمريكا اللاتينية، للمُشارَكةِ بتشييعِ سَكينة، أمَ محمّد.. ويدفنوها في مَقبَرةِ الرّوخاس، في قبرٍ رُخاميٍّ، يرتفعُ عن الأرضِ عِدّةَ سنتيمترات، لهُ شاهِدةٌ نقَشَ عليها ابنُ أخيها “حَكيم “، الذي كان يعمَل بالنقشِ على الرّخام، تاريخَ ومَكانَ وِلادَتِها، وتاريخَ ومَكانَ وَفاتِها، وسورَةَ الفاتِحَةِ، وأبياتاً من الشّعرِ، تؤرّخُ حَياتَها.. تُظَلِّلُ القبرَ شجَرةُ توتٍ كبيرةٌ، تتلاقى أغصانُها بأغصانِ أشجارِ الكينا، والزنزلخت، والصفصافِ، المُتوَزِّعةِ في مساحاتِ تلكَ المَقبَرَةِ المُسَوّرَةِ بحائطٍ مُرتفِعٍ، تعلوهُ قِطَعٌ من حُطامِ الزجاج…….

كانَ ذلكَ في خريفِ عام 1971م.. حينَ تلَقّتْ مَريمُ الخبَرَ، في رسالةٍ ، ناوَلَتها إياها بَتولُ – فَرِحَةً – لأنّ أمّها تلقّتْ رسالةً من الأرجنتين، ظَنّتها تحملُ أخباراً طيّبة………………..

***

تذكّرتُ عندما حَدَثتِ الهَزّةُ الأرضيّةُ في “سان خْوان ” وانهَدَمَتْ عِدّةُ بيوتٍ، ومنها بيتُ ابنةِ خالي “سامية “.. وكيفَ خافَ الأولادُ، وتمَلّكَهُمُ الرّعبُ، وصاروا ينامونَ في العَراء..

وعندما هَبّتْ عاصفةٌ قويّةٌ “إعصار ” طَيّرَتْ أسقُفَ التوتياء، وقطَعَت رأسَ رجُلٍ كان يمشي في الشارِع..

ويومَ رَكِبَ ابنُ “أحمد ابراهيم ” على بَغلتِهِ، بعدَ أن ناوَلتهُ أمهُ شَطيرَةً من الزبدة، وطلبتْ منه أن يذهَبَ ليَجمعَ البقرَ الذي كانوا يتركونهُ يرعى بحُريةٍ في السهولِ الواسِعة.. فرَبَطَ الحَبلَ الذي يُحيطُ بهِ رقبةَ البَغلةِ، على خَصرِه، وراحَ يدهنُ الزبدةَ على الخبزِ، والبَغلَةُ تسيرُ بهِ على طريقٍ ترابيةٍ طويلةٍ، ومُستقيمة، تحيطُ بها من الجانبينِ، أسلاكٌ شائكةٌ، تحمي حقولَ القمحِ، والذرَةِ، المُتراميةِ الأطراف… وعندما أجفِلَتِ البَغلَةُ، سَقَطَ الصبيُّ، ابن الثالثة عشرة، عن ظهرِها، فراحَتْ تجرّهُ، وهوَ مُعَلّقٌ بالحَبْلِ في رقبَتِها.. وكلّما صرَخَ، ازدادَتْ سُرعَتُها، حتى وَصَلَ إلى أهلِهِ مُمَزّقاً، دامياً، مُفارِقاً الحياة.. نتيجةَ دَعسَةٍ من حافِرِ البَغلةِ، ونتيجةَ جَرِّهِ فوقَ الأسلاكِ الشائكةِ، أمامَ أعيُنِ أهلِهِ، وبقيّةِ المُزارِعين… وكيف سَقطتْ أمهُ مَغشيّاً عليها… وكيفَ تناقَلَ الناسُ، أنهُ وُلِدَ ثانيةً، عند جيرانٍ لهم، عَرَب أيضاً، وعَلامةُ دَعسةِ حافِرِ البَغلةِ، ماتزالُ باديةً على صدغِه، وأنهُ – عندما كبرَ قليلاً – وصارَ قادراً على المَشيِ بمُفرَدِه، اتّجَهَ، أوّلَ ما اتجه، إلى بيتِ أهلِه.. وعندما صارَ يحكي، حَكى لهم قصّةَ سقوطهِ عن ظهرِ البَغلة، وتعرّفَ على أهلِهِ وإخوتهِ، بالأسماء.. وتأكّدَ الناسُ أنهُ (بيحدّ بجيله ) حين صارَ يحكي أسراراً بينهُ وبينَ إخوتِه، لا يُمكنُ لأحدٍ أن يعرِفها غيرَهم…

***

أتذكّرُ، كم ضحكوا عليّ، في بيت خالي، عندما كنا نزورهم في العاصِمة، وبعدَ أن بقينا عندهم عدة أيام، حانَ وقت عَودتنا إلى بيتِنا في الروخاس.. فقالت أمي لزوجةِ خالي :

-أمانة، يا زوجة أخي، خذي أبناءكِ، وزورونا، أيضاً.. ترينَ، كم فرِحَ الصغارُ ببعضِهم..!!

ومنطقتنا جميلة، وحلوة.. وسيفرحون أكثر..

أجابَتها زوجةُ خالي :

-إن شاء الله، يا ابنةَ عمي…

فصاحَ الأطفالُ بصوتٍ واحد، مُشجِّعينَ، وداعِمينَ للفِكرة… لكنّ زوجةَ خالي هَدّأتهم، قائلةً :

-لكنّ بيتهم ضَيّق، ولا تكفي الأسِرّةُ لتناموا جميعاً..

فقلتُ لها، مُتحَمِّسةً :

-لا عليكِ، يا زوجة خالي.. أنا، وابن خالي، ننامُ فوقَ بعضِنا…

خجلتُ كثيراً، عندما ضحِكوا على بَراءَتي.. وظلّوا يُذكّروني بها…

***

أدخَلوني المدرسةَ الأجنبية.. لكنني لم أطِقِ الإستمرارَ فيها، سوى أربع سنوات دِراسية…

كنتُ راغبةً – فقط – بتعَلّمِ اللغةِ العربيةِ، قراءةً، وكِتابة.. وهذا لم يحصل إلاّ في البيت…

كنتُ أصطفُّ مع الطلاّب، والطالِبات، في آخرِ الصفّ، لأنني كنتُ أطَوَلهم قامَةً.. ممّا كانَ يُخجِلني…

كنتُ أشعرُ بينهم بالغُربة.. فنحن لم نعتَدْ على إقامةِ علاقاتِ صَداقةٍ مَتينةً مع الأجانب.. بل، كانت زياراتُنا المُتبادَلة تقتصِرُ على المُناسَبات الرسمية.. الأعياد.. والمآتم.. إلخ

فخرَجتُ من المدرسة.. لكنني كنتُ أرغبُ كثيراً بقراءةِ القرآنِ الكريم.. السبيل الأهمّ لأتعلّمَ القراءةَ والكتابةَ بلغةِ أهليَ الأمّ، التي كانوا يشجّعونني على التمَسّكِ بها.. وكانَ يُغريني صتُ أبي وهوَ يرتِّلُ آياتِ القرآنِ الكريمِ، بخشوعٍ تامٍّ، يومياً.. خصوصاً، في شهرِ رمَضان المُبارَك.. قُبَيلَ الإفطارِ، وفي السحور، وقُبَيلَ صَلَواتِهِ الخمس، أو بعدَها.. كنتُ أشعرُ بالسّموّ في عالَمِ الروح، فأتشجّعُ أكثر لأتقِنَ لغتي، كما يُتقِنها أهلي… وكلما كان يزورنا أحدُ أبناءِ العَرَبِ، كنتُ أتعَلّقُ بثيابهِ، راجيةً إياه :

-أرجوكَ يا عَمّي.. أرجوكَ، لاتذهبْ قبلَ أن تُعَلِّمَني آيةً منَ القرآن..

ولم يكنْ أحدٌ يترَدّدُ في تلبيةِ طلَبي..

قرأتُ أحاديثَ الرسول (ص ) وسِيَرَ الأنبياء (ع ).. وقرأتُ كثيراً في (نَهْج البَلاغة )..

قرأتُ (كَليلة ودمنة ) باللغةِ العربية.. وقرأتُ (بَدائع الزهور، في عَجائبِ الدّهور ).. وغيرَها….

***

(نهاية 24 )

كنتُ أعدّ أيامَ الأسبوعِ، وأترقّبُ حلولَ العطلة الأسبوعيةِ، يومَ الأحد.. حيثُ كان أبي يصطحبنا في السيارة، التي يقودها بسُرعةٍ جُنونيةِ، إلى نهرِ الرّوخاس..

أذكُرُ، مَرّةً ، أنّ السيارةَ تزحلَقَتْ على الإسفلتِ، ودارَت حَولَ نفسِها، قبلَ أن تتوقّفَ بقدرةِ قادِر.. فصاحتْ أمي مَرعوبةً :

-ياخضر.. ياخضر دَخيلك..!!

وارتَمَتْ على المقعد، مُغمضةَ العينين، شاحِبةَ الوجه، بلا حِراك.. فرَبَتتُ على وجهها وكتِفها، وأنا أضحكُ، ساخِرَةً :

-قومي، بقا.. قومي.. لن تموتي الآن….

كان أبي يتركنا نصطادُ السمَكَ، بصناراتٍ وطُعوم.. فنتبارى أنا وأمي، مَن تستطيعُ اصطيادَ أكبر، وأكثر عدد من الأسماك… نضعها في سِلالٍ من القَشّ.. ويذهبُ هوَ إلى الغابةِ القريبة، المليئةِ بأشجارِ الكينا والصفصاف، حامِلاً بندقيّة الصيد.. يصطاد الطيورَ، خصوصاً البطّ البَرّي، الذي يكثرُ هناك.. وكلما اصطادَ بَطّةً، يناولنا إياها، لننتفَ ريشَها، وننظفها في مياهِ النهر.. ويوقِدُ هوَ الحَطَبَ، حتى يصبحَ جَمراً.. لنتناول وَجبةً أسبوعيةً دَسمة، ونطعم “تشي تشو “..ولا ننسى نصيبَ الهِرّة…

كان أبي يتأمّلنا بأسى، ونحن نتناوَلُ الغداءَ بكثيرٍ من المَرَحِ والسعادة..وهو يقول :

-الآن، نحن الثلاثة، مثل أركان “الدّسْت ” إذا مالَ أحَدُنا، اندَلَقَ “الدّسْت ” وانسَكَبَتْ مُحتوَياتُه…

ويبدأ بإنشادِ الأشعارِ الحزينةِ، بصَوتِهِ الحنون، شبهِ الباكي…

***

مَرّةً، جاءَ شخصٌ، واشترى من مَحَلِنا (موبيليا )، ومن ضِمنِها خِزانةٌ، على بابِها الأوسَطِ من الخارِج، مرآةٌ صَقيلة…

حَمّلوا البضاعةَ في الشاحِنة، وقادَها أبي.. وعندما وَصَلوا، أوقفوها، وأنزَلوا البضاعة..

اجتمَعَ الأهلُوالجيرانُ ليستمتعوا بمنظرِ البضاعةِ الجديدة.. ناوَلَ الزبونُ أبي حِسابَهُ المُتّفق عليه سَلَفاً.. وقبلَ أن يَصعَدَ خلفَ المِقوَد، ليعودَ إلى عمله، سمعَ صُراخاً، وأصواتاً تتعالى.. وصوتَ تكَسُّرِ زجاجٍ، وهَرَجٍ ومَرَج.. التفتَ باضطراب، وإذا بالخِزانةِ قد أصبحتْ في خبَرِ كانَ.. كان من ضِمنِ المُتفرّجين المُعجَبينَ بالخِزانة، ثورٌ ضخمٌ، رأى ثوراً آخرَ في المرآة، يستفذّهُ بتقليدِ حَرَكاتِه، فانقضَّ عليهِ ليحطّمَهُ بقرنيهِ الصّلدَين.. وزادَت من ثورتهِ، أصواتُ الهَلَعِ من الجمهورِ الهائجِ، أيضاً.. فأخذَ يُحَطّمُ كلّ مايقدرُ عليهِمما تبقّى من الخزانة، التي كانت ماتزالُ في باحَةِ الدار…

نزَلَ أبي.. وتقاسَمَ الخسارةَ مع الزبون.. ثم صَعَدَ خلفَ المِقوَدِ، وأطلَقَ العِنانَ لشاحنتهِ التي كان يسحَقُ هُمومَهُ تحتَ عَجلاتِها المُسرِعة…

***

كانت أمي تعلّمني الخياطةَ والتطريزَ، وشغلَ الكروشيه.. وأرسَلَتني لأستزيدَ من هذه المعلومات، إلى عند مُعَلّمَةٍ من “بوليفيا ” سوداء البشَرة..

وَعيتُ على الدنيا، وأنا أعرف أن أبي مريضٌ بالقرحة المَعِدية، التي استعصت على طبيب العائلة “خوان فيرمال ” وكل الأطباء الذين يعرفهم.. ولم يترك دواءً يصِفونهُ لهُ، إلاّ وأخذهُ بدِقة.. لكن.. دون جَدوى…

كان شيئاً طبيعياً بالنسبة لنا وله، أن يقومَ عنالطعام، ليضعَ أصابعه في فمه، ويتقيّأ عدة مرات.. وأحياناً كان القيءُ مُدَمّى.. كان يبقى شاحباً، قلِقاً، يائساً من الشفاء، حتى اعتبَرَ أن ذلكَ قَدَرُه، وأنّ عليهِ أن يتقبّله ويتحَمله.. لأنه لم يعُد يرى جدوى من العِلاج….

لكن.. وفي يومٍ من الأيام،جاءتْ عائلةٌ تحملُ عَفشَ بيتِها كامِلاً في شاحنة، لتُنزِلَها في بيتٍ استأجرَته، على بُعدِ حوالي شارِعَينِ من بيتِنا.. وعند سؤالنا عن هذه العائلة، قيلَ لنا أنهما أخَوانِ طبيبانِ من البرازيل، جاءا هاربَينِ من مُلاحَقةٍ سياسيةٍ، أو، ربما كانا مَكسورَينِ مادياً..

اقترَحَت أمي على أبي أن يذهَبَ إلى أحَدِ هذينِ الطبيبين، ويُجَرّب عِلاجَه.. لكنه أجابَها بيأس :

-لا.. لا..خَلَص.. جَرّبتُ كلّ أنواعِ العِلاج، وكلّ الأطباء، ولم أشفَ.. فهل تحلمينَ أن عِلاجَ هذا الطبيب مُختلِف..؟!

قالت له :

-جَرِّب.. لم يخلق اللهُ داءً، إلاّ خلَقَ لهُ دَواء….

زارَ الطبيب، في مُحاوَلةٍ أخيرةٍ للشفاء، وشرَحَ لهُ أنهُ لايمكن أن تدخل فمه لقمةٌ إلاّ ويتقيّأها..

سألهُ الطبيب :

-ماذا كنتَ تأكلُ في وطنِكَ الأمّ، وكانت مَعِدتكَ تتقبّلهُ وتهضمُهُ بسهولة..؟!

-كنتُ آكلُ “البُرغل ” و “المْتَبّلة ” و……..

-سأعطيكَ دواءً، وأصِفُ لكَ خطّةً عِلاجية، إن اتبعتَها بدِقة، سوف تعودُ وتستطيع تناوُل “البيرغل ” و “المتابلي “.. وكل ماتحب…

-يا أهل المُروءة..!! حسبي الله ونعم الوكيل…

ومن ضمنِ العِلاج، كان قد وَصَف له تناوُلَ خبزالنّخالة، وخبز الشعير، والشوفان، والحبوب الكامِلة…

وشيئاً فشيئاً، استعادَ عافيتهُ كاملةً، وصارَ يأكلُ كلّ مايريد، بدون آلامٍ أو إقياء..وعادَ إليهِ التفاؤلُ، ربما أكثرَ من الأول…

ولم يعرف كيف يُكافئُ ذلكالطبيب الحاذق..

وكان قد نذرَ أن يذبحَ ثوراً كبيراً، يوزّعُهُ مع زكاتِهِ على الفقراء والمساكين والمُحتاجين، إذا مَنّ اللهُ عليهِ بالشفاء.. وقد وَفّى بنذرهِ، وزادَ من صَلواتِهِ، شكراً للهِ تعالى على نِعمةِ العافية..

***

(نهاية 25 )

(كورونيل ميليان ) هذا هو اسمُ الشارعِ الذي فيهِ بيتُنا..الرقم (165 )…

مَرّةً، رَنّ الجَرس.. قال أبي :

-افتحي البابَ، يا مَرْيَم…

وإذا بشَيخٍ لهُ لِحيةٌ شقراء مَهيبة.. حَيّاني بالعربية :

-ألله يعطيكِ العافية يا ابنتي..

أنتِ ابنة عَرَب..

هل أنتِ ابنة الشيخ “صالح سليمان “..؟!

-نعم.. تفضّل..

ناداني أبي :

-مَن هذا يا مريم..؟!

-شَحّاذ.. شَحّذ، يا أبي…

نهَض أبي، وتقدّمَ من الشيخِ يسأله :

-السلامُ عليكم، يا سيدنا..

-وعليكم السلام ورحمةُ اللهِ وبرَكاتُه.. هل هذا بيت الشيخ “صالح سليمان “..؟!

-نعم.. لكن، مَن أنتَ ياشيخ..؟!

-هل أنتَ الشيخ “صالح سليمان “..؟!

-نعم.. تفضّل..

-أنتَ الذي تُصَلّي كثيراً..؟!

-مَن قالَ لكَ هذا..؟! ثمّ، مَن أنتَ يا شيخ..؟!

أنا مَبعوثٌ إلى عندكَ يا شيخ.. أنا قاصد ألله وقاصدك.. جئتُ لأموتَ عندك..

-بعدَ عُمرٍ طويلٍ، يا رَجُل.. مَن أنت..؟! وماهيَ قصّتُك..؟!

-إسمي “شعبان علي “.. لي ابنُ أخٍ، رَبيتُهُ كأنهُ ابني.. فأنا غير متزوج.. وعندما كبرتُ بالعمر، أعطيتُهُ كلَّ ما أملك، كلّ ما جَنيتُهُ من تَعَبي، وزوّجتُه.. لكنّ زوجتَهُ لا تحبني.. كانت دائمة التذمّر من وُجودي.. عَذّبوني كثيراً.. وبالآخر، طَرَدوني…

فسألتُ الناس، فدَلّني أحدُهم عليك، وقال إنكَ تصلّي كثيراً، وإنكَ قاضي حاجاتِ الفقراء.. وأنا قاصد ألله وقاصدك.. وإن سَمَحتَ لي، سأبقى لأموتَ عندك…

-لا حَولَ ولا قوّةَ إلاّ باللهِ العليّ العظيم.. أنتَ في بيتِكَ يا شيخ.. أهلاً وسَهلاً بك…

بقيَ عندنا مدةً طويلة.. كان أبي يُحَمِّمُهُ، ويُلبِسُهُ ثيابَهُ، ويقرأ على مَسامِعِهِ القرآن والأحاديث الشريفة، ويُجلِسُهُ في مَجالِسِ أبناءِ العرَبِ الآخرين، الذين كانوا يجتمعون في بيتنا في الأعياد والمناسبات… فكان الشيخُ – كلّما سَمعَ حديثاً دينياً – يتوَرّدُ خدّاهُ الأبيضانِ، حتى يصيرَ وجهه كالبَدر الذي يسطعُ منهُ النور.. ويبكي كثيراً…

كانت أمي تعتني به، أيضاً.. تغسلُ له ثيابه، وتطبخ له مايرغب من طعام.. وأنا أسقيهِ بيديّ…

 

 

 

 

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print

إقرأ أيضامقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تابعونا على فيس بوك

مقالات