تخطى إلى المحتوى

بَهّوج… -الأديبة فاطمة صالح صالح

12016737_883635755057727_1252852557_n(بهيجة).. كان اسماً لابنةِ جيراننا التي ماتتْ في الظلام.. في قَبْوٍ تعيسٍ كان مَرْبَطاً للدّواب.. بعدَ أن تخلّى عنها أهلُها – حتى أمّها – عندما داهَمَها المَرض.. أو الأمراضُ المُتعَدِّدَة، وهي تعملُ خادِمَةً غيرَ مأجورَةٍ عندهم، لأكثر من عشرينَ عاماً.. بعدما اغتصَبَها إبنُ (مُعَلِّمَتِها) في بيروت.. أو، بالأحرى، عاشَرَها ذلكَ المُراهِق، حتى مَلَّ منها.. وقد يكونُ (مُعلّمُها) أيضاً عاشَرَها.. أو غيرُه.. وغيرُه.. مَنْ يَدري..؟!

هيَ حَدّثتني بذلك، عندما كنا نرعى الدواب في (مْسيل الدّيراني).. وهي المرّة الأولى والأخيرة التي رَعَيتُ معها الدّواب.. مع أنني كنتُ أرغبُ أن تحكي لي قصّتها التي كانتْ تسردُها بصوتِها الذّليل، بالكثيرِ منَ التفاصيلِ المُثيرَة.. فتحَرِّكُ غرائزي التي كانتْ للتّوِّ تتفتّح.. أشعرُ بالقرَف، الذي يخالِطُهُ شعورٌ بالحَسَد، لأنها عرفتِ الجنس.. هذا المُحَرَّم، الدّنِس.. الذي يودي بمُمارِسيهِ إلى نارِ جَهَنّم..
كنتُ أتوقّعُ أن يغفرَ لها اللهُ.. أو يُخفِّفَ عنها العذابَ يومَ القيامة، لأنها أُجبِرَتْ على ذلكَ الفِعْلَ الشنيع..
كنتُ أتحاشى السلامَ عليها.. لكنني – بالمُقابِل – أُشفِقُ عليها إلى درجةِ الموت..
أخبَرَتني أنها عندما شكَتْ إلى (مُعلّمتها) تحرُّشَ ابنَها بها.. وأنهُ يُهَدِّدُها، إن عادت وأقفلتِ البابَ بوجهه، أنهُ سيَقتلها.. تفاجأتْ بجوابِ (مُعَلِّمَتِها) الذي يحملُ منَ التهديدِ والقسوة، أكثرَ مما كانتْ تسمعُهُ من ابنِها :
-استسلِمي لهُ، كما يأمركِ.. فهوَ سَيِّدُك.. لماذا أحضرتُكِ إذن..؟!
انتهَتْ مدّةُ صَلاحيتِها، عندما سافرَ (معلمها) مع أسرتهِ إلى فرنسا.. نقلها أبوها إلى بيتِ (مُعَلِّمٍ) آخر.. ثمّ آخر.. إلى أن وَقَعَتِ الحَربُ اللبنانية في السبعينات من القرنِ العشرين.. وهاجَرَ كلُّ (المُعَلِّمين) مع أسَرِهِم إلى بلدانٍ أجنبيةٍ مختلفة.. عندها، هامَتِ المسكينة.. لم يسأل عنها أهلُها.. فالعائلة كانت قد أصبحتْ كبيرة.. تعلّمَ أغلبُ إخوتِها وأخواتها إلى مَراحِلَ مُتفاوِتة.. لكنّ أحداً منهم لم يتجاوَزِ التعليمَ الثانويّ.. تزوّجَ بعضُهم.. وأطفَلوا..
زَوّجَتْ هيَ نفسَها لأكثر من مُشَرَّد.. وأقامَتْ معهم في بيوتِهِمُ الحقيرة.. (هل هي الحقيرة..؟! أم مَنْ أودى بهم إليها، هو الحقير..؟!) أنجَبَتْ طِفلةً من ذلكَ المَعتوه، مُشَوّه الخِلقة.. لم تلبثْ أن ماتَتْ.. فرأى أهلُ (بَهيجة) أنها ما تزالُ تحتفظُ ببعضِ القوّة، وبعضِ بقايا الشباب.. وأنها، إن عاشتْ معهم، سيستفيدونَ من بَقيّةِ طاقَتِها.. فهيَ تملكُ منَ الخِبْرَةِ في خِدمةِ الآخرين، والقدرةِ على تحمُّلِ الذلِّ والخنوع، مالاتملكهُ امرأةٌ في قريتِها (الخصيبة).. فقرّروا أن (يَلمّوا) تلكَ القذِرة، المُتشرِّدة، التي كانوا قد تبرّؤوا منها، منَ الشارع.. لتعمَلَ عندهم خادِمَةً غيرَ مُحترَمة، وغيرَ مأجورة.. لها صَحْنُها الخاصّ، ومِلعَقتُها الخاصّة، وزاويَتُها الضّيِّقة، المُعتِمة، التي تأوي إليها عندما تنتهي من أعمالِ البيت.. فيتجَنّبُ أهلُها حَمْلَ عارِها، إذا لم يعرفْ أحدٌ من أهلِ القريةِ بوُجودِها في بيتهم..
وعادَتْ (بَهيجة) إلى دارِ أهلِها، خادِمَةً مُطيعة.. نظّفتِ البيتَ، كما لم تستطعْ أمها، أو أخواتُها، أو، حتى نساءُ إخوتِها تنظيفه.. طبختِ الطعامَ، بأشكالٍ، وألوانٍ، وأصناف لم تخطرْ لهم على بال.. زَيَّنتْ زوايا البيتِ بالمزهرياتِ الطبيعية، والصناعية.. غرفة الجلوس، والمطبخ.. كلها نالتْ نصيبَها من الترتيبِ والنظافة من يدِ (بَهّوج).. زرَعَتْ أنواعَ الزهورِ والورودِ في حديقةِ الدارِ الصغيرةِ، التي حَفَرَتها بيديها الخشَبيّتين، اللتينِ لم يَعُدْ لهما شكلُ يدَي أنثى.. كوَجهِها، تماماً.. الذي انطفأتْ منهُ شُعلةُ الحياةِ، حتى صارَ يشبهُ وَجهَ المَوتى.. استثمَرَتْ كلَّ ذرّةٍ من ترابِ الحديقةِ، التي كانتْ مكَبّاً للنفايات.. فصارَتْ، من تحتِ يديها، حديقةً زاهية.. مُتعَةً للناظرين..
وأمّها.. حتى أمها كانتْ تُرَدِّدُ أنّ هذهِ (الشّيعة) وتقصدُ (المُحتَقَرَة) (بَهّوج) هيَ التي قلَبَتِ البيتَ رأساً على عَقِب.. هيَ التي زرَعَتْ.. وهيَ التي طبَختْ.. وخاطتِ الثيابَ الجميلةَ لإخوتها، وأبَوَيها، وأحفادهما الصغار.. وزَيّنتْ.. ورَتّبَتِ البيتَ بشكلٍ يُسعِدُ جميعَ ساكِنيهِ، وزائِريه..
وعندما مرِضتْ (بَهيجة) لم يعرِفْ بها أحَد.. فقَدوا سَماعَ صوتِها الذليلِ الهامِس.. وحَرَكَتها الدائمة.. تراجَعَتْ دَرَجَةُ النظافةِ في البيت.. ذبلتِ الزهورُ في الحديقةِ الصغيرة..
بَحَثوا عن (بَهّوج).. ظنّوا أنها هَربَتْ مع رجُلٍ آخر.. شَتَموها.. لعَنوها.. ولعَنوا الساعةَ التي قرّروا فيها أن (يَلمّوها) منَ الشارع..
فلتُشرِّدْ مَرّةً أخرى.. فقد كبرَتْ بالعمر.. ويبدو أنّ قِواها بدأتْ تخور..
أيامٌ عديدة، و (بَهّوج) غائبة عن الأنظار.. تجتمعُ العائلةُ كلَّ يومٍ، صباحاً، وظهراً، ومساءً.. تأكل، وتتزاوَر، وتشربُ المَتّة، وتتناوَلُ المُكَسَّرات.. ولا أحد يسألُ عن مَصيرِ (بَهّوج) إلاّ بعضُ الصّغار، أبناءُ إخوتِها.. فيلعَنُها الجميعُ إذا شَعَروا أنّ حاجَةً تنقصُهم، وهيَ غائبة.. فيتكلّفُ أحَدُهم عَناءَ القيامِ بها:
-مَلعونةٌ أنتِ يا (بَهّوج).. الزريعةُ تحتاجُ إلى تسميدٍ وسِقاية..
-مَلعونةٌ.. فقدِ اتّسَخَتِ الثيابُ كلُّها.. وزوجةُ أخيكِ الحامِل على وَشَكِ الوِلادَة..
-مَلعونةٌ.. أختُكِ ستتزوّجُ عَمّا قريب.. فمَنْ سيقومُ بأعباءِ الزفاف..؟! مَن..؟! أيتها القذِرَة.. أنتِ مثل (سلاح بيت شيبان) عندَ الضرورةِ لا تكونينَ فاعِلَة..
بعدَ أيام.. سَمعتْ أمُّها أنيناً يأتي منَ القبوِ المَهجورِ، الذي كانَ زريبةً للبقرِ والحَمير.. واستُغنيَ عنهُ، عندما استُغنيَ عن ساكِنيه..
تتالتْ أصواتُ الأنينِ الذي يأتي كأنهُ من مَغارَة.. نزلتِ الأمُّ – مُتثاقِلَةً – عِدّةَ دَرَجاتٍ منَ الحَجَرِ الأسوَدِ الذي نَبَتَتْ عليهِ بَعضُ الأعشابِ الخضراء.. يبدو أنّ قَدَماً لم تَدُسْهُ منذُ مدّة.. أخفَضَتْ رأسَها عندَ العَتبة.. ووَضَعَتْ كَفّيها حَولَ عَينيها، لتجمَعَ بَعضَ الضوءِ، عَلَّها تكتشِفُ مَصدَرَ الأنين.. تلَوَّتْ (بَهيجة) فوقَ (جِرْفَةِ) التّبْنِ، صارِخةً:
-دَخيلِكْ يا أمييي.. إنني أموت..
-مَن..؟! (بَهّوج)..؟! (ألله يحرق روحك.. شو جابك لهون يا مهتوكة الشَّيبة..؟!)
-دَخيلِكْ يا أمي.. ناوليني كأسَ ماء.. إنني مَريضة.. إنني أموت..
-(يقطَعِكْ ألله).. صار لنا مدّة نظنّ أنكِ (انقلَعْتِ) إلى (عَبّود) مَرّةً أخرى.. أو لَحِقْتِ ابنَ كلبٍ آخر..!!
قَلَبَتْها إلى جانِبِها الأيمَن.. صَرَخَتْ (بَهيجة) :
-آخ.. يا أمي..!! لحمي يتساقَط.. يتناثَرُ يا أمي..
تَعَوَّذَتْ (أم حَميد) منَ الشيطانِ الرجيم.. وهيَ تناوِلُها كأسَ ماء.. لم تلبَثْ أن طَلَبَتْ غيرَهُ، وغيرَه..
قامَتِ الأمُّ لتغسلَ يديها عِدّةَ مَرّاتٍ بالماءِ والصابون.. وتبصقُ عِدّةَ بَصقات.. ثمّ تفركُ يديها بغُصنِ رَيحانٍ أخضر، قطَفَتْهُ من حديقةِ الدار.. لتعودَ وتشمَّ رائحةَ يَدَيها، التي صارَتْ عَطِرَة..

———فاطمة

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print

إقرأ أيضامقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تابعونا على فيس بوك

مقالات