تخطى إلى المحتوى
آخر الأخبار
الرئيس الأسد يؤدي صلاة عيد الفطر في رحاب جامع التقوى بدمشق الرئيس الأسد يؤكد خلال لقائه عدداً من كبار علماء الشام دور المؤسسة الدينية بترسيخ الاستقرار من خلال ... الرئيس الأسد والسيدة الأولى يشاركان في إفطار جماعي بالمدينة القديمة في طرطوس الرئيس الأسد يلتقي المدرسين الفائزين بالمراتب الأولى في المسابقة العلمية التي أقامتها وزارة التربية الرئيس الأسد يلتقي ضباطاً متقاعدين: استثمار النضج والمعرفة والخبرة المتراكمة لخدمة الدولة والمجتمع الرئيس الأسد خلال لقاء مع أساتذة اقتصاد بعثيين من الجامعات العامة: الدعم يجب أن يبقى والنقاش لا يتم ... الرئيس الأسد يصدر القانون رقم ( 12 ) الخاص بحماية البيانات الشخصية الإلكترونية الرئيس الأسد يصدر مرسومين بتنفيذ عقوبة العزل بحق ثلاثة قضاة الرئيس الأسد يتسلم دعوة من ملك البحرين للمشاركة في القمة العربية القادمة التي ستعقد في الـ16 من أيار... وافق على رفع تعويض طبيعة العمل الصحفي.. مجلس الوزراء يناقش واقع الشركات المدمرة جراء الإرهاب لإعادة ...

هُويّتي..!!- الأديبة فاطمة صالح صالح

13459688_1036070406480927_219761066_nعَشقتُها.. والعاشقُ يَميلُ إلى الذّوَبانِ في المَعشوق، بقدرِ ما يكونُ عِشقُهُ صادقاً..

عَشقتُها.. ولا أدري إن كانت هي – أيضاً- تعشقني..

فالحبُّ الحقيقيّ، ينمو دائماً.. حتى ولو كانَ من طَرَفٍ واحِد..

لكنّ حُلُمَ العاشِقِ، الأبَديّ.. يبقى، أن يُبادِلَهُ المَعشوقُ الحُبَّ.. وبنفسِ القدر..

فلا يكتمِلُ الحُبُّ، إن لم يتّحِدْ طرَفاه.. العاشقُ، والمَعشوق.. ويذوبا مَعاً..في مكانٍ، يُصبحُ لا مَكاناً.. وزمانٍ، يُصبحُ لا زماناً..

إنهُ الخلود.. إنهُ الأبَديّة..

أبكي كثيراً، عندما لا أعَبّرُ لها عن حُبّي.. فتبادِلُني بالصّمْتِ، أو، التجاهُل.. أو، أنني أنا التي أطمَحُ منها إلى البَوحِ المُباشَر، وبوضوحٍ أكثر.. كي أتأكّدَ أنها تحبّني..

ربما هي ترى أنّ ذلكَ غيرُ ضروريّ.. فالحُبُّ لا يُعرَّف..

إنهُ شعورٌ بالرِّضى، والطمأنينة، عندما تلتقي بمَن تحبّ..

وقد تدّعي أنّ الحبَّ ليسَ قولاً مُباشِراً، فقط.. فكثيراً ماكانتِ كلماتُ الحُبِّ، خاليةً من مَضمونِها.. لذلكَ، هيَ تُترجِمُ حُبّها لي، من خلالِ أفعال.. ربما لا تُتعِبُ نفسَها بالتعبيرِ عنها بالكلام.. لأنها تظنُّ أنّ الكلامَ عاجزٌ عن ترجَمَةِ العواطف..

هل هيَ مَنْ تقولُ هذا الكلام..؟! أم أنا التي أقولُه، لأوهِمَ نفسي أنها تحبّني.. فيمنحُني حبُّها مُبَرِّراً لوجودي.. ودافِعاً لي للإستمرار، في هذهِ الظروفِ القاسية..؟!

***

سأرسمُ لها عِدّةَ صورٍ، ماتزالُ عالقةً في نفسي.. سأحاولُ أن أكونَ مُحايِدَةً، وأكتب تحتَ كلِّ صورةٍ، عِبارَةَ (بدونِ تعليق)..

لن أجبرَكَ أن تحبّها، كما أحبَبْتُها أنا.. فقد تكونُ مَعاييرُ حبّكَ، مُختلفةً عن مَعاييرِ حبي..

فقط.. أرجوكَ –قارئي العزيز- أن تتمَلّى وَجهَها.. وأن تعيرَها بعضَ اهتمامِك.. عَلّكَ تعرفها.. فتصبح صديقتَك..

***

ثلاثُ مَراحِلَ، مَرّتْ بها خلالَ القرنِ العشرين.. سأحاولُ أن ألتقطَ لها عَدَداً منَ الصّوَر، في كلِّ مَرحَلة..

وسأبدأ مع بدايةِ القرن..

وقبلَ أن أبدأ بالتصوير.. سأخبرُكَ – عزيزي القارئ – أنني رأيتُها، مَرّةً، تائهة.. ضائعة.. ممَزّقةَ الثياب.. مريضة.. باكية..

تقدّمتُ نحوَها، بحنوِّ العاشق.. شَهَقَتُ، عندما رأيتُها على تلكَ الحالة.. سألتُها : – مَنِ الذي فعَلَ بكِ هذا..؟! لكنها لم تُجِبْ..

ألحَحْتُ عليها :

 – باللهِ عليكِ.. قولي لي.. ماذا بكِ..؟!

– وما الذي ليسَ بي..؟!

تنفّسْتُ ملءَ رئتيّ.. استعَدْتُ استقامَتي.. تهَلّلَ وجهي، عندما أجابَتني على سؤالي..

لمَحْتُ منها بعضَ الثقة.. فسألتُها – بحَذَر – :

  • ما الذي يُشقيكِ أكثر..؟!

قالتْ :

  • هُويّتي..
  • وما بها هُويّتُكِ..؟! هل فقَدْتِها..؟!
  • مَزّقوها..

طمأنتُها :

  • لا تخافي.. معي منها الجزءُ الأكبَر..

التفَتَتْ إليَّ، باستغراب..

ابتسَمْتُ..

لكنّها لَوّحَتْ برأسِها، غير مُصدّقة..

هَزَزْتُ رأسي عِدّةَ مَرّاتٍ إلى الأمام، كي أؤكّدَ لها قولي.. لكنّها أشاحَتْ بوَجهِها عني، وأسرَعَتْ لاهِثَةً..

نادَيتُها :

  • حبيبتي..!!

لم تلتفِتْ.. ولم أيأسْ..

أسرَعْتُ خلفها.. نركضُ بينَ الجبالِ، وفي الوديانِ، وعلى التلال..

عَلِقَ رِداؤها الطويلُ في أشواكِ العَوْسَج.. كانتْ فرصَةً مناسِبة، لألتقِطَها من شَعرِها الذي كانتِ الريحُ ترسِلُهُ نحوي بتماوُجٍ يزيدُهُ جَمالاً وفِتنة..

صَرَخَتْ.. وفتَحَتْ فمَها..

فحَوّلتُ أصابعي شَبَكَةً فوقَ شَفتيها.. مَنَعْتُ عنّي شَتيمَةً مؤكّدَة..

كانَ التعَبُ والإرهاقُ قد نالَ منّا نحنُ الإثنتين..

أمسَكْتُها من خصرِها.. وجَلسنا في ظلِّ شجَرَةِ بَلّوطٍ مُثمِرة..

ألقتْ برأسِها المُثقَلِ على كتفي..

سألتني :

-لماذا تطاردينني..؟!

-لأنني أحبّكِ..

رَمَقتني بعَينينِ مَنَحَهُما التعَبُ المزيدَ منَ البريقِ والسّحر..

نزلتْ دَمعَةٌ فوقَ صخرةٍ سوداء.. كادَتْ تثقبها..

بأصابعيَ العاشقة، مَسَحْتُ خدّيها..

رَفَعَتُ كَفّها المُلقى على فخذي.. قَبّلتُهُ منَ الجهَتَين..

استكانتْ قربي..

شعَرْتُ بثقلِ جسمِها فوقَ جَنبي.. لكنّها مَنَحَتني المزيدَ منَ الدفء..

***

  • أيلولُ، يمنحُنا المزيدَ منَ الحزن..
  • بل، المزيدَ منَ القلقِ، والشفافية..
  • أيلولُ، يُبكيني.. لا أعرفُ لماذا..؟!
  • بل، هو يدفعُنا للتفكير.. يُحثّنا على تدارُكِ ما فاتَنا.. فيمنحُنا التجَدُّد.. يبعثُنا من رَمادِنا..
  • أنتِ حالمَة..؟!
  • وهذا مُبَرّرُ وُجودي..
  • أحلامُ الشعراءِ، أوهام..
  • بل، هيَ مُقدّمَةٌ للواقِع.. وأنا أحلمُ أنكِ ستستعيدينَ هُويّتَكِ.. فالطغاةُ لم يُمزّقوا منها إلاّ الوَرَق..

***

صورة1

كانتْ “كلثوم” تحملُ جَرّتَها، تقصُدُ “عينَ الحَبَق”، عندما لاحَقَها الجنديُّ الفرنسيُّ “العَبْد” منَ المُرتَزَقَة “السنغاليّين”.. لَكَزَها في ظهرها.. فأسرَعَتْ أكثر.. أسرَعَ خلفَها، وبندقيّتُهُ في كتفِه.. لاحَقَها حتى وصلتِ العَين، وهوَ يُراوِدُها عن نفسِها، وهيَ تهربُ منهُ، ولا تظنُّ أنَّ لها مَفرّاً.. فهوَ يحملُ سلاحاً قاتِلاً، وعضلاتٍ مَفتولةً، وجوعاً قديماً لامرأة..

استنجَدَتْ “كلثوم” بالمَزارِ الذي تحيطُ بهِ غابةٌ منَ السنديانِ العتيق :

-دَخيلَكْ، يا “شيخ غنّام”.. احمِني.. وابعِدْ شَرَّ هذا العَبْدِ عنّي..

وهُرِعَتْ لتختبئَ خلفَ الصندوقِ الحَجَريِّ الذي يرقدُ تحتَهُ جثمانُ الشيخِ الجَليلِ، الذي كانَ ينصُرُ المَظلومينَ في حياتِه.. وما يزالُ يلوذُ بمقامِهِ كلَّ مَظلومٍ، أو مُحتاج..

شيءٌ ما.. ربما خشوع.. أو خوف.. أو بقيّةُ أخلاقٍ، رَدّتِ الجنديَّ عائداً من حيثُ أتى.. رأتهُ “كلثوم” مُطأطئاً، يركُلُ الحَصى فوقَ الدّربِ العائد، واليأسُ والخزيُ يزيدُ من قَتامَةِ وَجْهِهِ، وانكِسارِه..

حزنَتْ عليه.. فواسَتْهُ، بصوتها الحنون :

(-يلعنْ أبو صاحبو.. مو دارِجْ عندنا..)

ملأتْ جَرّتَها بسلام.. قَبّلَتْ صندوقَ المزارِ.. ونذَرَتْ أن تشعِلَ البَخورَ فوقَ مقامِهِ، عندَ عَودَتها الثانية..

***

صورَة2

 عندما داهَمَ أحدَ بيوتِها، الجنودُ العثمانيّونَ القُساة.. عَلَّ أحَدَ الرجالِ ما يزالُ مختبئاً في أحِدِ البيوت.. إنهم يجمعونَ الرجالَ ليرسلوهم إلى الجُنديّة الإجبارية، لمُحاربةِ أهلهم وأبناء وطنهم،أو..!! كمُرتزقة..

كانَ اثنانِ منَ الرجالِ مُختبئَينِ في الدار.. يحاوِلانِ حِراسَةَ الأطفالِ والنساءِ والعجائز والمَرضى، والمَؤونةَ القليلة.. وعندما سَمِعَتْ “سَليمَة” أصواتَ أقدامِ جُندِ الأعداءِ تتقدّمُ باتّجاهِ بيتِها.. هي التي اعتادَتْ على تمييزِ الأصواتِ بفِراسَةِ امرأةٍ جَبَليّة، استدعَتها الحاجة.. أومأتْ للرّجُلَينِ بالإختباءِ في غرفةِ التّبْنِ، خلفَ الدّوابّ.. وأمسَكَتْ “بَدْرَة” ابنةَ جيرانها، ذات الثلاثةَ عشرَ عاماً.. والتي كانتْ تستعيرُ رَغيفَ خبزٍ، وبعضَ “الرّوْبة”، بسُرعةِ البَرْقِ، وَضَعَتْ يَدَها على فمِ الشّابّةِ الصغيرة.. وأمسَكَتْها من كَتِفها، ووضَعتها تحتَها، وجلسَتْ فوقها، كأنها تجلسُ على “قِرْمَةِ” حَطَبٍ، أو “جَلّوق” فوقَ كُرسيٍّ عتيق.. فرَشَتْ ثوبَها الواسِعَ فوقَها.. وأمَرَتْها بالهُدوءِ التامّ.. صاحَتْ بالجنود :

-لماذا تفعلونَ هذا..؟! قلتُ لكم، ليسَ لدَينا رِجال..!!

لكنّهم واصَلوا البَحْثَ، وتكسيرَ “السّدادينِ” المصنوعةِ منَ الطينِ والقَشّ، وإفراغِ مُحتَوَياتِها منَ الحُبوبِ، فاختَلَطَ طعامُ البَشَرِ، بعَلَفِ الحيواناتِ، وروثِها.. والأبقارُ، والأنعامُ تعجُّ وترتعِدُ خوفاً من هؤلاءِ البهائمِ، أو، الوحوشِ الهائجة..

-أينَ زوجكِ..؟!

-ولماذا تلكزني هكذا..؟! قلتُ لكَ ألفَ مَرّة، أخَذتموه.. أخَذتموهُ، ولمْ يَعُدْ.. فلماذا تُتعِبونني بالبَحثِ عنهُ مُجَدَّداً..؟!

لَكَزَها ثانيَةً في صَدْرِها.. صاحَتْ به :

-يلعن أبوك.. اخرج الآن..

وخَرَجَ.. بل، خَرَجوا بَعدَما خَلّفوا البيتَ مَقلوباً رأساً على عَقِب.. قامَتْ “سَليمَة” من فوقِ “بَدْرَة” التي كانَ وَجْهُها كالبَدْر.. أعطَتْها حاجَتَها، ورافَقَتها، مُخفيَةً إيّاها تحتَ ثوبِها، حتى دَخَلَتْ بيتَهم..

ظلّتِ المَرأةُ تُواعِدُ الجنودَ، مَرّةً بعدَ أخرى.. لكنها وُعودٌ خادِعَة.. كانتْ توهِمُ أحَدَهُمْ، أنها مُلْكُ صديقه.. فيخشى الإعتداءَ على “مُلْكِ” مَنْ هوَ أقوى منه.. لكنها – في الحقيقة – لم تكنْ صَديقَةَ أحدٍ، ولا مُلكَ أحَد.. ولم يَمْسَسْها أحدٌ، طيلَةَ حياتِها التي تجاوَزَتِ الخامسة والثمانين، إلاّ زوجَها “محمّد”.. ولم يَعرفْ هوَ سِواها.. لكنّها – بقامَتِها الفارعَة – وقوّةِ صَوتِها، وقَسْوَةِ مَلامِحِها، وصَلابَةِ عودِها، الذي استطاعَ الصمودَ كلّ هذا العمرِ، تحتَ لهيبِ الشمسِ، وقسوَةِ الرّياح، ووُعورَةِ الجبال.. استطاعَتْ أن تُساهِمَ في “الثورَة” على طريقتِها الخاصّة.. مُخلِصَةً لمَبادِئِها.. وَفيّةً، مناضِلة، حنونٌ على الضعَفاء..

***

 

صورة3

في زَمَنٍ ما.. كانتْ حبيبتي صَبيّةً.. قد بَلَغَتْ سِنَّ النضج.. ناداها جَسَدُها.. فهَدّدَتهُ.. طرَقَ أبوابَها جائعاً.. فأمهَلَتْهُ قليلاً.. لكنّهُ مَلَّ الإنتظار.. فضَجَّ في فضاءِ روحِها.. وراحَ يصخَبُ، ويَستجدي.. استسلَمَتْ لمَطالِبِهِ العادِلة.. وراحتْ تبحَثُ عَمّنْ يَليقُ بإتمامِ المَهَمّة، وتلبيَةِ حاجاتِ ذلكَ الجَسَدِ الصاخِبِ، الصارِخ.. وعندما لم تجدْ رَجُلاً يَليقُ بذلكَ الضّجيج.. عندما لم تجدْ مَنْ يملأ فضاءاتِها الرّوحيّة.. انكفأتْ.. وضَغَطَتْ على صُراخِ ذلكَ الجَسَد، حتى كادَ يختنق..

بكَتْ عليهِ، ومِنهُ.. لكنّها هَدّدَتْهُ :

-لو قَتَلَتْكَ الرّغبَة.. بل، لو قَتَلَتنا معاً.. لنْ أُسْلِمَكَ إلاّ لمَنْ يُغذّي فضاءاتنا المادّيّةَ، والمَعنويّة.. بنفسِ القَدر.. لن يمْسَسكَ ذكَر… اهدأ.. فلا بُدَّ أن أحظى يوماً ما، بذكَرٍ، رَجُلٍ، إنسان.. يفيضُ حَناناً، ويشمَخُ عِزّةً وقوّة.. عندها، سألبّي حاجَتَنا المُشتَرَكة.. وسأتعَرّى أمامَهُ، ليكونَ رَجُلي.. رَجُلي الوحيد، الذي يُكمِلُني، وأكمِلُه.. نتّحِدُ معاً، كاتّحادِ الغيمِ بالمَطَر.. كالجبالِ بالطّرُقاتِ الوَعرة.. كاتّحادِ الزّهرِ بالأريج.. والله، معَ الحياة..

***

صورة4

عندما هَجَمَ الجَرادُ، والتَهَمَ ما خَلّفَهُ المُستعمِرُ، من أخضرَ، ويابس، وترَكَ الحقولَ، والأجسادَ، والأرواحَ، جَرْداءَ قاحِلَة.. في ذلكَ الزمَن.. حَرّمَ عُقلاؤها ذَبْحَ إناثِ المَواشي، حِرْصاً على زيادَةِ المَواليدِ، وحِفظِ الأنواع..

وعندها، أيضاً.. حَرّموا أكْلَ بعضِ أنواعِ الطيورِ، والحيواناتِ البَرّيّةِ، والبَحريّة.. كالأرانب.. وغيرها.. لنفسِ السّبَب..

وفي ذلكَ الأوانِ، حاوَلوا مَنْعَ الناسِ من رَعيِ المواشي في بَعضِ البِقاعِ الخضراءِ، أو قَطْعِ الأشجار.. ولم يجِدوا بُدّاً من تخويفِ العامّةِ، منَ الإقترابِ منْ “وَقْفِ” المَزاراتِ، أو التّعَدّي على تلكَ المساحاتِ الخضراءِ، والأشجارِ المُعَمَّرَةِ، التي تحيطُ بالمَقامات.. حِفاظاً على الطبيعةِ، ومُحاوَلَةً لاستعادَةِ التوازُنِ البيئيّ، كانتْ قدْ أفقَدَتهم إياها الحُروبُ، والجَرادُ، والأزمِنَةُ الجافّة..

احتفَلوا بالأعيادِ، على طريقتِهِمُ الخاصّة، التي تتناسَبُ معَ أوضاعِهِمُ المَعيشيّة.. جَعَلوها مُناسَباتٍ لأداءِ صلاةِ الجَماعَة.. ولمُصالحَاتِ المُختَصِمين.. ومَواسِمَ للفرَح.. يذبَحونَ فيها بَعْضَ الماشية، والدّجاج.. ويطبخونَ عليها “البُرغُل ” مع “الحمّص”.. إلى جانبِ “اليَخْنة” المكوّنة من اللحم والبَصَل والزيت.. يجعلونَ الطّبْخَ بشكلٍ جَماعيّ.. القريةُ كلّها تجتمعُ في بيتٍ واحد.. يَجمَعونَ الذبائحَ مع بعضِها، وكذلكَ البرغل والحمّص والبصل والزيت.. وكذلكَ زكاةَ المال..

 هذا مالُ الله..

يُصَلّونَ جَماعَةً.. ويأكلونَ جَماعَةً.. ويوزّعونَ الزكاةَ على المُحتاجينَ، والأطفالِ، الذينَ قد لا يرَونَ النقودَ إلاّ في الأعياد.. أو، قدْ لا يتناوَلُ أحَدُهُمُ اللّحْمَ، سوى منَ العيدِ، إلى العيد.. ولأبناءِ السبيلِ نصيبٌ من الطعامِ، والزكاة..

يجتمِعونَ في شَهرِ رَمَضان، ليُصَلّوا صَلاةَ العشاءِ، جَماعَةً، في بيتِ أحَدِهِم.. يرَونَها مناسَبَةً للتلاقي، والتراضي، وفَكّ الخلافاتِ، والتفاهُمِ فيما بينهم، وتبادُلِ الأحاديثِ، والأخبارِ الخاصّة، والعامّة، في شؤون الحياة.. ثمّ يعودُ كلُّ واحِدٍ منهم إلى بيتِهِ، شاعِراً بأهميّةِ الإجتماعِ على خيرِ الجميع.. ويُرَدِّدون : (المَجالِسُ.. مَدارِس)..

كانَ العيدُ يحملُ مَعنىً إنسانياً سامياً.. ومناسَبَةً لملءِ البطونِ الجائعة، والأفواه الفاغرة.. والتكافُلِ الإجتماعيّ، الذي لم ينقطِعْ عنهُ الناسُ، يوماً.. لكنّهُ يبدو جَليّاً في الأعياد.. ويعوّضُ النّقصَ خِلالَها.. فقد تضيعُ حُقوقُ البَعْضِ، في زحْمَةِ اللهاثِ عن لقمةِ العيشِ الكريمة، فتأتي الأعيادُ لمُراجَعَةِ ما مَضى، وتصحيحِ الخَلَل، وتثبيتِ الصّح..

***

 

صورة 5

كانَ هناكَ “عِدْلٌ ” واحدٌ للقرية.. يستعملهُ الأهالي، والأفضليّةُ للأكثر حاجةً.. و “شرْوالٌ ” واحدٌ أيضاً.. يلبسهُ المُسافر.. و (تنكةُ) صفيحٍ واحدة.. وكذلكَ (تنّورٌ) واحد.. تخبزٌ عليهِ القريةُ كلّها، حَسبَ الدَّوْر.. دون أيّ خلافٍ على الدَّوْر.. فبالطبع الدّور الأول لمن (طَلَعَتْ) أيّ، اختمَرَتْ عَجنَتُها أكثر.. وكذلكَ (بئرٌ) واحِدٌ للقرية.. يستعملُ الأهالي ماءَهُ لطينِ الأسطحة.. أو أيّةِ حاجَةٍ مُماثلة..

وطينُ الأسطحةِ، أيضاً، كانَ جَماعياً.. يبدؤون بالبيتِ الأكثر حاجةً للطين.. وكذلكَ كان هناكَ (حَبْلٌ) واحد.. و (خْناقٌ) واحد.. و (كَيلَةٌ) واحدة.. و(طاحونٌ) يدَويّةٌ واحدة (جاروشَةُ) حُبوبٍ واحدة.. و (دولابٌ) واحِدٌ، لحَلِّ شرانقِ دودِ الحَرير…. إلخ..

هذهِ الروحُ الجَماعية، كانتْ تمنحُ الجميعَ الشعورَ بالدّعمِ، والإنتماءِ إلى الجَماعة.. وتُشعِرُ الجميعَ بالقوّة.. أنهُ إذا احتاجَ أيّ إنسانٍ منهم لأيِّ دَعْمٍ كان، مادّيٍّ، أو مَعنويّ.. فسيجدُ المُساعَدَةَ من أيّ شخصٍ آخرَ في القرية.. بشكلٍ عفويٍّ، طبيعيّ.. كأنهم ضمنَ عائلةٍ واحدة..

(الجار.. ولو جار)

***

كثيرةٌ هي الصّوَرُ التي التقطتُها لحبيبتي.. سأطْلِعُكَ عليها، لاحِقاً، يا قارئي العزيز..

سألتُها :

-وهلِ الهُويّةُ التي مَزّقَها الطّغاةُ، هي ما تبحثينَ عنهُ، يا حبيبتي..؟!

لماذا لم تبحثي عنها في المَعنويِّ فينا، نحنُ أبناء حَضارتكِ..؟!

هلِ الهُويّةُ إلاّ مُمارَساتِ الشعوبِ، وثقافتِها، التي تتجَلّى في علاقاتها الإنسانيةِ معَ الناسِ، والحياةِ، والكائنات، والكونِ كُلِّه..؟!

ثقي، أيتها الغالية، أنّ هُويّتَكِ محفوظةٌ في تاريخِكِ المَجيد.. في جيناتِ أبنائكِ، وأهلك، وأحفادِك.. آتيةً من مَنابِعِها النقيّة.. مُتفاعِلَةً مع الكونِ، والثقافاتِ الأخرى.. إلى حَدِّ المُساهَمَةِ في إثرائِها.. تعطي وتأخذ.. من دون الذوَبان في الآخر.. فالحفاظُ على الهُوية، ليسَ تعصّباً.. بلْ هو حِفاظٌ على الخصوصيّة.. والخصوصيّةُ جزءٌ من العموميّة.. لا تشبهُها.. بلْ، تزيدها جمالاً، وتجَدُّداً..

لماذا تخافينَ من إظهارِ هُويّتِكِ، يا حبيبتي..؟!

-حِرصاً عليها منَ الغُرَباء..

-هل اعتدَيتِ،يوماً، على حَقِّ أحدٍ من هؤلاءِ الذينَ تخشَينهم..؟!

-أبداً.. لا والله.. فقط، دافَعْتُ عن حَقي في الحياةِ الحُرّةِ الكريمةِ، فوقَ أرضِ آبائي، وأجدادي، الذينَ أورَثوني إياها منذُ آلافِ السنين..

-إذن.. أبرِزيها للعَيان.. وإلاّ اعتبَرتُكِ جَبانة..!!

-أبرِزيها أنتِ.. فقد بلغتُ منَ العُمرِ عِتيّاً.. وقد لا يُصَدّقُ الناسُ كلامَ عجوزٍ خَرِفَة..

-أنتِ لا تشيخين.. بل، تتجَدّدينَ باستمرار.. لكن.. امسَحي الغُبارَ عن وَجهِك.. فقد أخفى بعضَ مَلامِحِكِ الجميلة..

                                                  الكاتبة:فاطمة صالح صالح

                                                                المريقب

 

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print

إقرأ أيضامقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تابعونا على فيس بوك

مقالات