تخطى إلى المحتوى

رواية ( نبضُ الجذور)- الكاتبة فاطمة صالح صالح- المريقب

صَدَرَتِ الرواية عام 2008م

عن (دارعَشتروت لخِدمات الطباعة والنشر. بيروت – لبنان )

______________________________________________

الإهداء..

إلى ماريّا إيلينا … أمي…

فاطمة

______________________________________________

-إيزابيل…

عودي إلى ” تشيلي “…

ومرّي  ” بالأرجنتين “…

زوري لي قبرَيّ جَدّي، وجَدّتي…

في ” الروخاس “…

قبّلي عني الترابَ الذي يضمّهما..

أو، الذي يرقدانِ تحتَه…

أرجوكِ، يا إيزابيل…

أبلِغيهِما رسالتي…

فقد يكونانِ جَدّيكِ، أيضاً…

فاطمة.. المْرَيقِب في /2/6/2007م

 

Isabel…

Te Ruego que vayas a Chile…

a La Argentina… pase que y

para saludar a mis abuelos…

que ya hase muchos anios que han fayesidos…

Estan en el cementerio de La ciudad de Rojas…

Pcia de Bs As…

Yrece por sus almas…

Porque pueden ser-en el mismo momento- tus abuelos…

___________________________________________________

 

مَسَحتُ الغبارَ عن صورةٍ تسكُنني، منذ وَعيتُ على الدنيا، قبلَ نصفِ قرنٍ من محاولتي إسنادَها على ذلكَ الجدار..

الوجوهُ الثلاثة كانت تنطق.. مع أنّ جَسَدَيّ اثنينِ من أصحابها مَدفونانِ –منذ عِدّةِ عُقود – في بلادٍ بعيدة..

قد تكونُ هذهِ الصورةُ التي تسكنني، مَسحوبةً منذ عام /1947م/… في “استوديو ” من استوديوهات التصوير في “الروخاس ” إحدى المُدنِ التابعةِ لمحافظة ” بْوينوس آيرس “… العاصمة الأرجنتينية.. /ستوديو كورتي /…

هذه الصورةُ، تشبهُ – إلى حَدٍّ كبير – صورةَ طائرٍ، جَسَدُهُ أسوَد، وجَناحاهُ أبيضان..

كان عمرُ الشابةِ –آنذاك – ستةَ عشرَ عاماً.. وكان عمرُ أبيها الجالسِ على كرسيٍّ بينها وبين أمها، حوالي تسعة وخمسين عاماً… والأمّ في السادسة والخمسين…

الرجلُ يرتدي طقماً أسودَ، وقميصاً أبيض، مع كرافتّة منقطة… يمسِكُ بيدِهِ اليسرى أوراقاً.. أو، ربما دفتراً… يضعه على فخذه الأيسر… ينتعِلُ حذاءً أسودَ.. يُصالِبُ ساقيهِ عند الكاحِلَين…

ابنته تقفُ على يسارِه، واضعةً كَفها اليمنى على كتفهِ الأيسر… ترتدي فستاناً أبيضَ اللونِ، لهُ قبّةٌ مُغلقةٌ من الأمام، بزرٍّ لهُ سِلسِلةٌ معدنيةٌ رفيعةٌ مُزدَوِجة، تبدو كأنها عِقد، تربطُ الزرّ بالعُروةِ من الجانبِ الآخرِ لصَدرِ الفستان.. كُمّاهُ طويلانِ، ينتهي كلٌّ منهما بأسوارةٍ عريضة.. تظهرُ من تحتِ الكمِّ الأيسَرِ، ساعةُ يدٍ تحيطُ بمِعصَمِها… تنّورةُ الفستانِ واسعةٌ، تغطّي رُكبتيها، وتنزلُ تحتها بعِدّةِ سانتيمترات… ساقاها، شبه العاريتين، يغطّيهما، بشكلٍ شفّاف، جرابٌ من لونِ الجسم.. تنتهيانِ بقدَمَينِ تنتعِلانِ صَندَلاً مُغلَقاً من الأمام.. لكلِّ فردَةٍ لسانٌ من الجلدِ، يحيطُ بكعبِ القدَمِ من الخلف، ويُغلقانِ ببكلةٍ من المعدنِ، على الجانبين…

المرأةُ تقفُ على يمينِ زوجِها، تتأبّطُ ذراعَهُ اليُمنى… تلبسُ فستاناً طويلاً، أبيضَ اللونِ، مُقلّماً بخطوطٍ فاتحة، يرتفعُ عن الكاحِلِ عدّة سنتيمترات… تنتعِلُ حذاءً أسوَدَ، دونَ كعبٍ، وجراباً أسودَ، أيضاً.. كُمّا فستانِها طويلان، ينتهيانِ بأسوارةٍ رفيعة.. وقبّتهُ تخفي الصدرَ بشكلٍ كامل…

الثلاثةُ حاسِروّ الرؤوس.. المرأةُ ذات شعرٍ تظهرُ فيهِ بعضُ التجاعيدِ، تفرقهُ من منتصفِ رأسِها، وترفعهُ من الخلف.. والبنتُ ترخي شعرها الذي يشبه شعر أمها، على ظهرها، وفوق كتفيها.. غرّتها مرفوعةٌ عن جبينها عدة سنتيمترات لتزيد من جمال وجهها…

مُقدّمة رأس الرجل صَلعاء.. وبقية الشعر الذي يظهر على جانبيّ رأسِهِ تبدو بدون تجاعيد.. له شاربان يتصِلانِ بلِحيةٍ خفيفةِ الشعر،.. بشَرَةُ الرجل فاتحةٌ أكثر من بشرة زوجته وابنته، الحنطيّتين..

الكلُّ يحملُ مَشروعَ ابتسامة…

نهَضَ الرجلُ عن كرسيّهِ، وأخذَ يتكلّم :

-ما الذي تريدينَ معرفتَهُ، يا حَفيدتي الغالية..؟َ

-جَدّي.. جَدّيَ الغالي.. أولاً، أريدُ أن أمَتّعَ روحي بمُناداتِكَ “جَدّي “.. لأنني لم أقلْها لجَدٍّ حقيقيٍّ لي، أبداً..

-وثانياً، يا ابنةَ بنتي..؟!

-وثانياً، يا جَدي.. إنني أبحثُ عن الحقيقة، وأبدأ من مَعرِفةِ نفسي، وجذوري..

-هل تسمحينَ لي بالجلوسِ، قبل أن أبدأ..؟!

-تكلّم على راحَتِكَ، يا جَديَ الغالي.. لكن، باللهِ عليك، أخبِرني بكلِّ ما عَلِقَ في ذاكِرَتِك..

-حَسَناً.. اكتبي، أيتها الحفيدةُ العنيدة.. فأنتِ تشبهينني كثيراً..

***

قد يكونُ تاريخُ ميلادي، عام /1888م/.. وربما كنتُ أكبرَ من جَدّتِكِ بثلاثةِ أعوام..

أقول، ربما.. لأنهُ في ذلكَ الزمان، لم يكُنْ تسجيلُ المَواليدِ دقيقاً.. فقد كان الناسُ يُخفونَ أغلبَ مَواليدهم عن الحكومةِ العثمانية.. ناهيكِ عن أنّ المواليدَ كانوا يولَدونَ حيث يُداهِمُ المَخاضُ أمّهاتهم.. ربما في البرّية، أو في إحدى القرى التي هُجِّروا إليها، أو في أيّ مكان..

لكنني أعتقدُ أنني وُلِدتُ في قريتي نفسِها، التي وُلِدتِ أنتِ فيها، أيضاً، بعدَ حوالي خمسةٍ وستينَ عاماً..

كانتِ البلادُ تعيشُ حالةً من الفقرِ المُدقِع.. ومن مُلاحَقاتِ الدولةِ العثمانيةِ التي لا تنتهي.. ومنَ السّلبِ والنّهبِ وقِلّةِ الأمان، ما لايُمكِنُ لكم أنتمُ الأحفاد، أن تتصَوّروه..

كانَ هناكَ ” عِدْلٌ ” واحدٌ للقريةِ كلِّها.. ومِسَلّةٌ واحدة، أيضاً..

الموتُ، كان بالجُملة.. إمّا من الجوع، أو من المرَض، أو القتل، أو كلّ مايخطر على بالِكِ، أو لا يخطر..

أحياناً كان عَددُ الموتى في القرية، يتجاوزُ عَددَ الأحياء.. حتى أنّ الناسَ كانوا يحاوِلون تقطيعَ وقتِهم، حتى يطلعَ الفجرُ، ليدفنوا بقيّةَ مَوتاهم.. إمّا بالغِناء، العتابا، والمَواويلِ الحزينةِ، أو المُفرِحة.. أو بإلقاءِ النكَتِ على السامِعين.. أو باختراعِ ألعاب، وتسليات، تكفلُ لهم تحَمّلَ الوقتِ الثقيلِ، بأقَلِّ الخسائرِ المُمكِنة.. وفي الصباح، يحملون النعوشَ، ليدفنوها في قِمَمِ وسفوحِ الجبالِ القريبة..

انظري.. ما تزالُ بعضُ المَقابرِ حَيّةً، رغمَ زحفِ العمرانِ نحوها.. ” الرّوَيْسِة “.. ” الرّامِة “.. ” الصّفحَة “.. ” الضّهْر “.. وغيرها..

بعضُ البيوتِ خلَتْ تماماً من أهلِها.. وبعضُ العائلاتِ انقرَضَت..

لن أطيلَ عليكِ، يا جَدّي.. فلا ينقصُكِ مُنغِّصات..

-أرجوكَ يا جَدي.. أرجوكَ أطِلْ، فحديثُكَ يُشجيني، لكنهُ مُمتِعٌ وجميل.. لأنهُ صادِق..

-تُصِرّينَ، إذاً..؟!

-أرجوكَ، جَدي.. فكما قلتُ لكَ، إنني أبحثُ عن الحقيقة، وعن نفسي أولاً.. مَن أنا..؟! مِن أيّةِ جُذورٍ نبّتَت هذهِ الفروع..؟!

في أوائلِ القرنِ العشرين.. وقد يكونُ عام /1907م/ تزوّجتُ شابّةً جميلةً من قريةِ ” الصّومعَة ” قربَ ” صافيتا “.. سَكَنتُ معها غرفةً حَجَريّةً، في قريتي.. أحبَبتها، وأعتقد أنها أحَبّتني.. فرغمَ فقري، كنتُ جميلاً.. ألا تلاحِظينَ ذلكَ، يا جَدّي..؟!

وكيفَ لا ألاحظهُ، أيها العجوز الرائع، الذي أتمنى لو أوْرَثَني جَمالَ أصابعِهِ المَبسوطة على فخذهِ، في هذهِ الصورة، كما أوْرَثَني عِنادَهُ، وحِدّةَ بَصيرتِهِ، وحَنانَهُ المُفرِط..؟!

لكنني أوْرَثتُكِ الطموحَ، أيضاً.. هل تنكُرينَ ذلكَ، أيّتها الشقيّة..؟!

وحُبّ المُغامَرة، أيضاً.. والمزاح المُبالَغ فيه، لإخفاءِ هُمومي.. ألا ترى ذلكَ، أيضاً، يا جَدّي..؟!

اصمتي الآن، ودَعيني أكمِلُ  حديثي، فقد فتَحتِ قريحَتي على الكلام..

عندما أخبرَتني زوجتي أنها حامِل، كانت سعادتي تعادِلُ هَمّي.. من أينَ سأطعِمُ هذهِ الأسرة، التي بدأتْ تتشكّلُ، وأنا المسؤولُ الأوّلُ والأقوى فيها..؟!

وعَقدتُ العَزمَ على السفَر..

-وتتركني وحيدة..؟!

مَسَحتُ على رأسِها.. داعَبتُ خصلات شعرِها.. ونَهَضت :

-ليس أنا مَن يقبلُ أن يعيشَ، أو تعيشَ أسرَتُهُ، إلاّ أعِزّةً، مُكَرّمينَ، يا آمِنة…

أعِدُكِ ألاّ أطيلَ الغِياب.,.

-إنني أنتظرُكَ، أنا، وهذا..

وأشارَتْ إلى بطنِها المُنتفِخ قليلاً..

-ادعي لي، يا آمِنة..

-ألله يوفقك، ويحميك من شَرّ الظالِمين، يا صالح، ويرجّعَك لنا بالسلامة..

سَحَبَني إلى هناكَ، أحَدُ الذين سَبَقوني إلى الأرجنتين، من أبناءِ قريتي.. ومنذُ وُصولي، استدَنتُ مَبلغاً من المال، ورحتُ أشتري ” الطّرْشَ ”  وأرعاه في المقاطعات الجبلية “مندوسا “.. “كوردوبة “.. “سان خوان “، وغيرها.. أسمن المواشي، وأعود لأبيعها في البازار، ثم أشتري غيرها.. وهكذا كنت أستطيع تأمين مصرفي الشخصي.. لكنني لم أستطع أن أرسل لزوجتي في الوطن، إلا الشيء اليسير..

عندما أخبروني أنني أصبحت أباً لطفل، أطلقت عليه

زوجتي اسم ” سالم “.. وكنا قد اتفقنا أنا وهي على تسمية المولود – إن كان ذكراً – بهذا الاسم – طرت من الفرح، فقد صار لي امتداد، حلمُ الإنسان الدائم بالخلود.. سارعتُ لاستدانة بعض النقود، وأرسلتها لها..كنت شديد الألم من أجل آمنة.. وها أنا أصبح شديدَ الألم والشوق والإحساس بالمسؤولية بشكلٍ مُضاعف، بعد مجيء ” سالم ” .. لكن، ما العمل..؟ فلم يكن بالإمكان، أكثر من الذي كان..

ضاعَفت جهدي، كي أستطيع تأمين مبلغٍ من المال، لأسحَب زوجتي وطفلي إلى عندي، فلم يعد الوطن يغريني بالعودة إليه، أو بالعيش فيه، وقد خرجتُ منه مقهوراً، حتى من إخوتي الذين تخلّوا عني وقت الحاجة.. ( وتدمع عينا الشيخ )..

-كيف، يا جدي..؟ أخبرني، بالله عليك.. ما الذي جعلك تزعل من إخوتك إلى هذه الدرجة..؟؟

-لا تتعبي نفسك، يا جدي.. فقد مضى ما مضى، وقد أمضيتُ عمري وأنا أدعو لهم الله، في صلواتي، أن يسامحهم، وأن يستبدل سيئاتهم، حسنات..

-وهذا ما يغريني أكثر، لمعرفة ما حصل..

-قلت لك يا جدي، أننا – ككل الناس في ذلك الزمان – كنا نعاني من فقرٍ، وقِلّ، وجوع.. وكنت قد زرعت حقلاً من القمح، وسيّجته أنا وزوجتي الحامل، مَنعاً لاحتمال أن ترعاه دوابّ الآخرين..وتستطيعين أن تقدّري ما يعني أن يذهبَ الموسم، الأمل الوحيد، في تلك الأثناء..

وفي مرة، ذهبت لأتفقد حقلي ذاك، وإذا بعدة رؤوس من الماعز، تلتهم الزرع الطري الأخضر، بنهم شديد، فجن جنوني :

-من ذلك المُستهتر الذي يتركُ دوابه تؤذي  زَرعي..؟ أسرعتُ إليها، قفزتُ من فوق السياج، جمعتُ العنزات، وسقتها أمامي – حانقاً – إلى الزريبة.. زرَبتها، وأغلقتُ ” الصّيرِة ” عليها، وأعلنتُ على الملأ :

-من كانت له هذه العنزات، فليأتِ ليدفعَ لي ثمنَ ما آذته من حقلي، قبل أن أعيدَها إليه..

عرفتِ ذنبي، يا جدي..؟؟ كان ذنبي الكبير، أنني طالبتُ بحَقي، ممّن اعتدى على حَقي..

قال لي إخوتي :

-الماعز لبيت شيبان.. لا تعلق معه.. قد يؤذيك..

-يؤذيني..؟؟ أنا أطالب بحقي، وليس بشيء آخر..

وجاء شيبان :

-أطلِقْ ماعزي، وإلاّ آذيتك..

-لن أطلقها، قبل أن تعوضَني عما خرّبَته من زَرعي..

-أطلِقها، أو ترى ما لا تتمناه..

-وتهدّدني، بعد هذا..؟ لن أطلِقها دونَ حقي..

في اليوم التالي، كان الماكرُ قد جَمعَ عدداً من أقاربه، وكَمنوا لي على الطريق الذي أسلكه بشكل يومي، إلى حقلي، حاملين عصياً.. فاجأوني من كل جانب، ونزلوا بي ضربا بالعصي، وبشتائم، لا أدري كيف يحفظونها..

لم أستطع الدفاع عن نفسي، سوى ببعض ” البوكسات ” على وجه هذا، وظهر ذاك..

هربوا.. بعد أن أشبَعوني ضرباً، وشَتماً، وسباً.. وأنا وحيدٌ، أعزَل..

وعندما عُدتُ إلى بيتي، ورآني إخوتي على هذه الحال، قالوا لي :

ألم نقلْ لكَ، لا تعلَقْ مع ناسٍ من هذا النوع..؟!

كنتُ أغلي من قهري، وإحساسي بالذلِّ والمَهانة :

ليس أنا مَن يسكتُ على ضَيمٍ، يا إخوَتي.. سأنتقِم لحَقي، وكرامتي، فهَلاّ تؤازروني..؟!

لا تعْلَقْ معهم.. سنشكوهم إلى المختار..

إذاً، ستتخلّون عني وقتَ الشدّة..؟!

لم أنمْ تلك الليلة…

وفي الصباح، ذهبت بمفردي، حامِلاً عصايَ، وقهراً مُضاعَفاً، ودِماءً تغلي، طالبةً الإنتقام..

لكنّ الأنذالَ، كانوا قد توَقعوا انتقامي، فاستعَدّوا لمواجهتي، بقوةٍ، وعددٍ أكبر من الأوّل.. وأنا بمُفرَدي.. فانهالوا عليّ ضرباً، وشَتماً، حتى كادوا يقتلونني..نتَفوا لحيتي، التي كنت أعتزّ بها، كعربيّ مُسلم.. ولم أستطع النيلَ منهم، إلاّ الشيء اليسير، مما زاد من شعوري بالذلّ، والهَوانِ، والقهر من إخوتي الذين تقاعَسوا عن نصرتي وقت الشدّة، مُدّعين أنهم سيتبعون الطرق القانونية…

( سنشكوهم إلى المختار…)…

وماذا سيقعل المختار..؟!

هل أنتظر أن يحلّ المُختار محَلّ ردّ فعليَ الطبيعيّ، الفِطريّ، للدفاعِ عن نفسي، وحقوقي،وكَرامتي..؟!

هل يجوز ذلك.. وأنتم تعرفون ” عَدالةَ ” ذلكَ المختار الذي سَلّطته علينا الحكومةُ العثمانية..؟!

-آه.. يا جدي.. ذكّرتني بحالِنا اليوم.. نكَأتَ جراحي التي لم، ولن تندمِلَ، أبداً.. فأعمق الجراح، تلك التي يُحدِثها الأحبة.. ولا أظنها تندَمِل…

-تعبتُ، يا جدي.. دَعيني أسترِح قليلاً، قبل أن أتابع التذكّر.. فأنا، حتى الآن، وبعد كل هذه السنوات التي مضت على مغادرَتي دنياكم، ما تزال تُدمي قلبي بعضُ الذكريات.. وهذه من أكثرِها إيلاماً..

وعاد الرجلُ ليستريحَ على ذلك المقعد.. أو أنهُ توَسّدَ ذراعَ زوجته،ونامَ قليلاً، قبل أن يستيقظَ، ويتابع :

-أظنكِ الآن عرفتِ أسبابَ حزني، يا جَدي..

-معكَ حق يا جدي.. أنا التي أعرف.. الغربةُ في الوطن.. الغربةُ بين الأهل، هي أقسى أنواعِ الغربة.. وأنا أعذركَ جداً.. فأكمِلْ حَديثك، لو سمحت..

ضاعَفت جهدي، كي أؤمّن من المال ما يعينني على شراء – حتى غرفة واحدة – أسكن فيها مع زوجتي وطفلي، وعند ذلك، سوف لن أتردّد لحظة في إخراج تلك المسكينة وطفلها من ذلك الوضع القاسي..

كانوا يقولون لنا، أن المُهاجر سيغرفُ الذهبَ بيديه، عندما يصل إلى تلك البلاد، لكننا ذقنا الأمَرّين، كي نؤمّنَ لقمةَ العيشِ الشريفة، وكثيراً ماكُنا نعاني من التمييز العنصريّ:

-( توركو.. خرا.. خرا..) (توركو.. مْييردا.. مْييردا )

عِدّة سنوات، يا جدي، ولم أستطع تأمين مايزيد عن قوت يومي، واليَسيرَ اليسير، مما أستطيع إرساله إلى زوجتي وطِفلي..

لكن……………..

وفي يوم من الأيام، جاءتني رسال، تخبرني أول خبر مُفجِع.. لم يلبث أن تَلاه الخبرُ الأفجَع الثاني.. موتُ طِفلي، وموت تلك المسكين زوجتي الشابة الجميلة، قهْراً عليهِ، بعد عِدة أشهر..

الآن.. انقطَعتْ صِلتُكَ بالوطنِ، تماماً، يا صالح..

الآن، صِرتَ غريباً،حتى عن ذاتِك..

وحيداً.. في غربٍ لا تعرف الرحمة..

ماذا ستفعل الآن..؟!

هل تعودُ إلى الوطن..؟! ولماذا تعود..؟!

بل، ومن أينَ لكَ ” الناوْلون “..؟!

شعرتُ بالتمَزّق، لكنني عدتُ وتماسَكتُ، نتيجةَ إيماني باللهِ تعالى، وأنهُ ” لا يَقنطُ من رحمِ اللهِ إلاّ القوم الكافرون ” و ” إنّ اللهَ مع الصابرين ” وأنّ الذي بَلاني، سيعينني.. فاستعَنتُ بالصّبر والصّلاة…

ذكاءٌ متوقّد، تتمتع بهِ، يا صالح.. وإيمانٌ مُطلَقٌ باللهِ تعالى..

شَبابٌ طَموحٌ جَموح، يهزأ بالمُستحيل.. بلادٌ، سيجد المُحنكُ النشيط فيها، عملاً، أو أعمالاً، تدرّ عليهِ – ولو بالتقتير – الرزق الذي يكفلُ له العيش الكريم..

إذاً.. هل تقنعُ بالهَلاك.. والحياةُ مِنحةٌ ربّنية، العمل على تحسين الأحوال فيها، من أهَمّ العِبادات..؟!

لن أعودَ إلى بلدي خائباً.. لن أشَمِّتَ بي مَن ظلموني.. فالحياةُ كرامة، قبلَ أن تكونَ لقمَةَ عَيش…

وقمتُ من مِحنتي…

***

لم أترك عملاً شريفاً أقدرُ عليه، إلاّ واشتغلتُ به.. زراعة، حَصاد، جَني الذرة، تسمين المَواشي وبَيعها في ” البازار “، تصليح بعض الآلات البسيطة، مَتجَر صغير أبيع فيه كلّ مايخطر على بالِك،مما يحتاجه الناس، وأعمالاً كثيرة، كانت تدرّ عليّ المالَ الذي يكفلُ لي العيشَ الكريم.. وكلما توَفر معي مبلغ زائدٌ عن حاجَتي، كنتُ أرسله إلى أهلي وأقاربي في الوطن…

كما أنني أسّستُ جمعيةً أعضاؤها من المُغتربين العرب.. جَعلتُ مَقرّها في بيتي.. تهتمّ بشؤونِ المُغترِبين، تحاولُ مساعدتهم على حَلِّ مشاكلهم، ونتابعُ أخبارَ الأهلِ في الوطن.. نحاول مساعدتهم قدر الإمكان.. و- خلال الثورة – كنا نجمع الأوال لدعم الثورة والثوّار، والأهالي الفقراء المُدقِعين، ونسلّمها لبعضِ الرجال الذين كانوا يأتون من الوطنِ لهذا الغرَض..

تنقّلتُ في أماكن كثيرة من الأرجنتين، مما أكسبني خِبرة كبيرة.. لكنّ أغلب معارفي كانوا من المغتربين العرب..

مازلت أذكر – وبكل وضوح – حادثة، لا يمكن أن تغرب عن ذهني، مَرّت معي في ذلك الزمان..

مرّة، كنت أسرح بخرافي، في إحدى  المقاطعات الجبلية، أحمل وعاء ماء للشرب، وخبزاً، ومَتّة، وبعض الطعام المعلّب، وزجاجة يود لتعقيم الجروح..

كنت بمفردي هذه المرة.. في مرات كثيرة كنت أصطحب رفيقاً، لأنّ الأمن قليل هناك، والسلامة غير مضمونة، والجريمة ليست نادرة الحدوث.. لكن، ما كان يطمئنني، أنني غريب، لا لي.. ولا عَليّ.. قليلاً ما يعرفني أحَدٌ، أو أعرف أحداً، والفقر واضح عليّ.. فما الذي يدعو أحداً للإعتداء عَليّ..؟! لكنني، للحيطة، كنت آخذ معي سكيناً، أخفيها في ثيابي، أستعمِلها لقطع بعضِ الأغصانِ، لأهشّ بها على دوابّي..

اقتربتُ من أماكن سكنية.. رأيتُ بيتاً مُنفرداً، وسمعت شِجاراً حادّاً يجري بين رجُلين، لم يلبث أن انضمّ إليهما ثالث…

راقبتُ الموضوع عن بُعد، لكنني توَفّزتُ – بدِماءِ العربيّ الشهم، الذي لا يستطيع الوقوف مكتوف الأيدي، وهو يرى اعتداءً على مَظلوم -.. مع أنني لم أكنْ أعرف الظالِمَ من المَظلوم.. لكنني رأيتُ اثنين من المُتشاجِرين يضربان الآخرَ بوَحشيّةٍ أرعَبتني، واستنفرَت إنسانيّتي…

اقترَبتُ، وصرخت بهِما.. لكنهما هَدّداني، إن تدَخّلتُ…

كان صاحب المَحَلِّ وابناهُ يراقبون الحادثة، كأنها شيءٌ عاديّ… وفي آخر المَطاف، ضرَب أحَدهما الرجُلَ بآلةٍ حادّةٍ في بَطنهِ، وهَرَبا…

صَرَخَ صَرخةً قاتِلة، وسَقطَ على الأرضِ، مُضَرّجاً بدِمائهِ، وأمعاؤهُ نافرة خارج بطنه..

أسرَعتُ نحوَ الضحية، عَلّي أستطيعُ مساعدته.. بينما أغلَق أصحابُ المَحَلّ دكّانهم، وأقفلوهُ  من الداخل.. خافوا من أن يُتّهَموا بالفِعلِ، عندما تأتي الشرطة…

وبسرعةِ البَرقِ، نادَيتهم – عندما رأيتُ خطورةَ جرحِ الرّجل – ورحتُ أطرقُ على بابِ المحلّ :

-إن لم تفتحوا، سأخبرُ الشرطة أنكم أنتم الفاعِلون..

كَرّرتُ لهم تهديدي ووَعيدي.. ففتحوا الباب…

طلبتُ منهم أن يُحضروا ماءً، ويساعِدوني في إنقاذ الرجل..

أحضروا الماءَ، وبعضَ الخرق النظيفةَ من بيتهم..

غسَلتُ جُرحَ الرجلِ، بكلِّ ثقةٍ، وقوّةِ قلب… سَكَبتُ زجاجةَ اليودِ كامِلةً فوق بطنهِ المَفتوحِ، ثمّ تناوَلتُ من جَيبي إبرَةً لخياطةِ القِماشِ، وخيطاً مَتيناً.. جَمَعتُ أمعاءَ الرجلِ النظيفةَ والمُعَقّمة، وأدخَلتُها في بطنهِ، وخِطتُ الجلدَ عليها، ثمّ لَففتُ البطنَ بالكامِلِ، بالخروقِ النظيفةِ التي أحضَرَها أصحابُ المحلّ..

قرأتُ عليهِ بعضَ الآياتِ القرآنيةِ، وبعضَ الأدعِية.. وأمَرتُ أصحابَ المحلِّ أن يحملوه إلى بيتهم، وأن يعتنوا به، إلى أن يشفى.. وكَرّرتُ تهديدي، إن لم يفعلوا، فسأخبرُ الشرطة أنهم هم المُعتَدون..

جَمَعتُ دوابّي، بعد هذا اليوم المُرعِبِ، الشاقّ.. وعُدتُ بها إلى الحظيرة..

لم أستطع النوم من كثرة الكوابيسِ التي تداخَلَت في رأسي.. كان تفكيري بالرجلِ الجريح، أكثر بكثير من تفكيري بسببِ المُشكلة.. وهل ستنجحُ تهديداتي وتوصِياتي بهِ، أم لا..؟!

وعندما غفوتُ، راحَت أحلامي تتكسّرُ على دروبِ قريتي البائسة، وفي وديانها، وتِلالِها، وحقولِها، التي لم تنعَم بالراحةِ من الظلم، والقهرِ، لحظةً واحدة، منذ وَعَيتُ أنا وأبي وجَدّي وجَدُّ جَدّي، وقبلهمُ الكثير، على هذه الدنيا..

فكّرتُ بزوجتي البائسة، التي ماتتْ من قهرِها على طِفلِها.. وحاوَلتُ أن أتصَوّرَ مَلامِحَ ابني.. تصَوّرتُهُ يشبهني كثيراً.. لكنني عُدت، وأصرَرتُ على أنّ وَجههُ كان يشبهُ وَجهَ أمهِ الجميلة، رغمَ نحولِها…

مَسَحتُ دموعاً، لم أحاولْ مَنعَها :

-لا حَولَ ولا قوّةَ إلاّ باللهِ العليّ العظيم..

وقمتُ للصلاة…

***

لم أجرؤ على الذهابِ في نفس الطريق، إلاّ بعدَ حَوْلٍ كامِل.. فكّرتُ كيف أن خِرافي كانت تشبع بسرعةٍ أكبر، عندما أصعَد بها تلك الجبال الخضراء..

توكّلتُ على الله، ومشيت…

صادفتُ رجلاً قريباً من أول بناء ظهر عليّ.. لم أكترث.. حَيّاني الرجل :

-( بْوين دِيّا..)…

-( بوين ديّا..).. وتابَعتُ سَيري…

لكنني لاحَظت أن الرجل توقّف، وأخذ يتفحّصني بكثيرٍ منَ الدِّقة…

خِفتُ.. أسرعتُ أكثر.. فكّرتُ بأكثر من طريقةٍ للدفاعِ عن نفسي.. لكنّ الرجلَ الذي تأكّدَ من هُويّةِ ذلك ( التوركو ) من خلالِ لِحيتي الطويلة الناعِمة والمُشذّبة، ومَلامِحي المُختلفة قليلاً.. هَجَمَ عَليّ، واحتضنني، قائلاً :

-أنتَ..!! أنتَ إذاً هو..!!

دَفعتُهُ بقوّة :

-ابتعِدْ عن طريقي.. ماذا تريدُ مني..؟!!!؟

أمسَكَ بيدي التي امتدّتْ إلى سكّيني.. بادَرَني بابتسامةٍ، ووَجهٍ مُحِبٍّ، وقبلاتٍ، وعِناقٍ حارّ…

-مَن أنتَ يا رجُل..؟!

-مَن أنا..؟!! (وكَشَفَ لي عن بطنهِ الذي ظهَرَتْ عليهِ آثارُ الجِراحِ المُلتئمة )…

-أنا الذي، أنتَ، بعدَ اللهِ، أنقذتَني من الموت، العام الماضي…

أنا الذي أدينُ لكَ بحياتي…

دَعْني أقبّل يدَيك…

سَحَبتهما، وأنا أقول :

-الحياة، والموت، من عندِ اللهِ وَحده.. أللهُ هوَ الذي أحياكَ، يا رَجُل.. الشكرُ للهِ وَحده…

***

سبعةَ عشَرَ عاماً، بقيتُها في تلكَ الغربة، لم أفكّر- خِلالَها – بالزواج، إلى أن سَمعتُ أنّ ” سَكينة ” صديقة الطفولة، التي كنتُ مُعجَباً بها، وبذوقِها، وأخلاقِها، إلى حَدٍّ كبير، قد ترَمّلَتْ، أيضاً…

لا أكتمُكِ سِرّأً، يا ابنتي، أنني كنتُ أقضي الليالي وأنا أفكر بحالي وحالِها.. أتذكّرُ طفولتنا سويّة، واحترامَ وتقديرَ كلٍّ منا للآخر.. كنتُ أزينُ الأمور، أقلّبها في كلّ الإتجاهات، إلى أن توَصّلتُ إلى قرارٍ لا رَجعَةَ عنه.. وتعرفينَ جَدّكِ، إذا اقتنعَ بشيء، فسيعملُ كلّ ما يستطيعُ لتحقيقِ هَدفه..

-أحمدُ الله، أنني مثلكَ في هذهِ، أيضاً، يا جَدّي…

-الحمد لله.. التفكيرُ السليم، والإرادَةُ التي تهزأ بالمُستحيل، من أهَمِّ أسبابِ النجاح، يا جدي…

المُهِم، أنني صَمّمتُ –أخيراً – على العَودةِ إلى الوطن، بعدَ أن أجمَعَ قدراً كافياً من المال، وأعرض على جَدّتِكِ الزواج.. وكان عندي حّدْسٌ لا يُخطئ، أنها ماتزالُ تحبني، وتحترمني، وتثقُ بي.. كما هيَ بالنسبةِ لي.. فقد كانت إنسانةً مُحترَمة، وابنةَ أصول…

جَمَعتُ أغراضي، ورَكبتُ الباخرةَ، عائداً إلى الوطن، على هذا الأمل…

وفي البرازيل، استقبَلَني أحَدُ مَعارِفي، وقالَ لي، مُستغرِباً :

-بعِلمي أنكَ قرّرتَ عدم العودة.. فما الذي جعلك تغيّر رأيك..؟!

-اشتقتُ إلى الوطنِ، يا صديقي…

-اشتقتَ إلى الوطن..؟! أم إلى بيت الشيخ غانِم..؟!

-كلَيهِما معاً…

لم تزعجْني ملاحظته الصادقة.. وكنتُ صريحاً معه.. فوُجودي بينَ أهلي، لا يُعادِلُهُ وجودٌ في العالَم.. والغربةُ تبقى غُربةً، مهما أطلَقنا عليها من تسميات…

( أهلَكْ..!! ولا تَهلَكْ….. ولَو دَبّوك بالمَهْلَك…)

كانت عَودتي إلى الوطن، عام 1925م..لأجدَ الأحوالَ من سيّءٍ، إلى أسوأ.. فقد رَحل العثمانيون، وجاءَ الفرنسيون.. استُبدِلَ مُستعمِرٌ بآخر..

كان حالُ أهلي قاسياً للغاية..

أخي محمد، كان قد توفيَ منذ سنوات.. كانَ كريماً جداً، وذا طبعٍ مَرِحٍ، وصوتٍ جميل.. كان طيّبَ القلبِ، وحنوناً، وشَهماً للغاية.. شارَكَ في المعاركِ ضدّ العثمانيين، ومن بعدهم، الفرنسيين.. كان أبيّاً، لا يقبَل الضّيم.. لكنّ الحروبَ، والفقرَ، والجوعَ، والظلمَ، والقهر.. كلّ هذه العوامل، كانت سَبباً في جعله يشرب الخمرةَ، لينسى همومَه بعضَ الشيء.. لكنه لم يلبث أن مرضَ مرضاً شديداً، وتوفي.. تارِكاً زوجته “خديجة ” وابنتَيه.. “فضيلة ” و ” سعيدة ” وابنه الذكَر الوحيد “زكَريّا “…

كما كان قد توفيَ أيضاً، أخي الثاني “علي “.. ذلكَ الشاعر الصوفيّ المُناضِل النبيل.. الذي كان يحتفظُ بكُتبٍ تراثيةٍ قيّمة.. تبحثُ في علومٍ كثيرة.. من علوم الفلَك، إلى علوم الصحةِ البدَنيةِ، والنفسية، إلى علومِ اللغةِ، وعلومِ الدينِ، والقانونِ، والعلومِ الطبيعيةِ.. وغيرها…

كانت هذه الكتب، هي كل ما استطاع هو، وأسلافه، إخفاءها عن المُستعمِرين، الذين أحرَقوا الكثيرَ من الكتبِ التراثيةِ، أو أغرَقوها، أو عَبَثوا بمُحتوَياتها..

لكنّ بعضَ المُتنوِّرين، الغيارى على التراث، وعلى الهُوية، ومَصلحةِ الناس، استطاعوا أن يحتفظوا بالقليلِ القليل من هذه الكتب القيّمة.. لأنهم أدرَكوا قيمَتها، وخطورةَ فَقدِها، أو إتلافِها…

المهمّ، ياجَدّي، أنّ أخي “علي ” كان قد ترَك زوجتهُ، وابنتَه الوحيدة “حليمة “..بقيتا تسكنانِ في ذلكَ البيتِ الحَجَري، الذي هُدِّمَ، وأُحرِقَ عدة مرات، عندما هَدّمَ الغزاةُ، وأحرَقوا القريةَ كلّها، والكثيرَ من القرى في الوطن.. فأصبحت أرمَلتا أخوَيّ، وأبناؤهم تحت حِمايةِ، ورِعايةِ جَدِّكِ “الشيخ مَجيد “، وحدهُ الذي بقيَ – كما ترَين – من إخوَتي، على قيدالحياة.. بالإضافةِ إلى أختي “كاملة “…

تستطيعينَأن تقدّري، يا جَدّي، حَجمَ الضغطِ الذي كانَ يعانيهِ جدّكِ “الشيخ مَجيد ” وعائلته، ومَن تبقّى من عائلتيّ أخَوَيهِ المُتوَفين..

كانتِ الثورةُ التي قادَها المَغفور لهُ – بإذنِ الله – “الشيخ صالح العلي ” قد أُخمِدَتْ منذ سنواتٍ قليلة، وتعرفينَ أنّ جدكِ “الشيخ مَجيد ” كان “عَقيداً ” فيها.. وأنهُ كان آخرَ مَن ألقى السلاح.. وبالتأكيد، سمعتِ، أو قرأتِ عن شجاعتهِ، وبطولاته…

-طبعاً، يا جَدّي.. سمعتُ، أكثرَ مما قرأتُ…

سمعتُ ذلكَ من فمِ جَدّتي “حليمة ” “أم عادِل ” ومن الكثيرين ممّن عاصَروه…

كانت جدتي تكشفُ عن صَدرِها المُتعَبِ، لتُرِينا أثرَ شَظيةٍ أصابَتها إبّانَ القصفِ الإستعماريّ الفرنسيّ الغاشِمِ، على القرية…

فقد حَكَت جَدتي –من ضمنِ ماحَكَت – كيف أنّ جَدي “الشيخ مجيد ” استطاعَ، مع اثنينِ – فقط – من الثوّار، أن يتسَلّقوا جَبَل القْلَيعات، ويُشَكِّلوا أجسادَهم بالرّيحان، ويُفاجِئوا “رِسّاك” بعَتادِهِ، وعدّتِهِ، من الآلياتِ والجنود الذين كانوا يقصفونَ القريةَ من أعلى جبل القليعات المُقابِلِ لها.. ويُرَوِّعونَ، ويقتلونَ النساءَ، والأطفالَ، والشيوخَ العُزّل.. أما الشباب، فكانوا جميعاً ثوّاراً.. كلٌّ بطريقتِه، وحسبَ استِطاعَتِه…

تستطيع قريتنا الغالية “الخصيبة ” أن تفخر بصمودها، يا جدي.. فرغم الفقر، ورغم الحرق، والقهر، والتجويع، والترهيب، والمداهمات، ومحاولات الإعتداء على الأعراض، لم يكن في قريتنا الغالية (الخصيبة ) أي عميل، ولا ساكت على ظلم…

-لا تنسي النساء، يا جدي.. هل غفلت عن بطولات النساء في بلادنا..؟ فأنا أفخر بأختي “أم أحمد كاملة ” فقد أخبروني أنها كانت ترتدي لباس الرجال، وتحمل سكينا، منجلا، وتعبر الوديان والغابات، والجبال، في الليل والنهار، لتنقل الرسائل والطعام والماء إلى إخوتها الرابضين مع الثوار في تلك الأماكن.. كانت أشجع من الرجال…

ثم، انظري إلى مقبرة “الصفحة “..هناك دفنت إحدى البطلات اللاتي كن ينشدن الأناشيد الحماسية، ويسقين الثوار، ويزغردن لهم، ليشددن من عزيمتهم على رد العدوان.. هناك ترقد بطلة من وادي العيون، كانت تصيح بالبوارج الحربية الفرنسية، التي تقصف من البحر.. تدق على صدرها، وتتحداهم أن يقتلوا روح هذه الأمة الأبية :

-اضربوا.. اضربوا.. اضربوا…

فارتقت شهيدة، هي وأبوها.. ودفنا مكان استشهادهما…

-آه… ياجدي.. يالها من أيام..!!

فقد استطاع جدي “الشيخ مجيد ” ورفيقاه، أن يفاجئوا “رسّاك ” ويصدّوا الحملة الفرنسية، ويقتلوا العديد من الجنود الفرنسيين المُعتدين، ويُلاحِقوا البقيّة.. إلى أن استطاعوا أسرَ العديدِ منهم، رغم مُحاوَلاتهم الإختفاء عن أعينِ الثوار، بين الأهالي، مُعتمِدين على دَعمِ بعضِ ضِعافِ النفوس…

-المهم، يا جدي.. لأكمِل لكِ…

كان أخي “مَجيد ” والأسرة كلها، في حالةٍ لا يُحسَدون عليها.. فقد أخذ على عاتقهِ حِماية ورعاية زوجة أخيه “علي ” وابنتها.. وزوجة أخيه “محمد ” وابنتيها، وابنها.. تعَهّدَ الأسرتين بالرعاية والحِماية.. وزوّجَ “حليمة ” من ابن عمها “زكريا “.. كانت شابة جميلة وذكية.. وكان شاباً خلوقاً جداً، لكنه ضعيف البُنية.. واختارت كل من ابنتيّ أخيه “سعيدة ” و “فضيلة ” زوجَين على ذوق كل منهما.. لكن الأم اختارت أن تبقى في بيت جدك، وتحت حِمايته.. وكانَ بيتُ جدك، مايزالُ مِحَجّةً لكلِّ طالِبِ حاجَة، ولكلِّ وطنيٍّ حُرّ، من كلِّ الطوائفِ والإنتماءات… كانوا يثقون بهِ ثقةً مُطلَقة.. فهوَ وحدَهُ الباقي من عائلتنا التي توارَثَتْ سِلكَ القضاءِ غير الرّسميّ، والدفاعَ عن حقوقِ المَظلومين.. فكانَ ينالُ ثقةَ الظالِمِ والمَظلوم على حَدٍّ سَواء.. اسألي كلّ مَن عاصَرَهم…

-ومَن لم يُعاصِرهم، فقد سَمعَ عنهم من آبائهِ وأجدادِهِ، يا جَدّي.. لا تخَفْ على الحَق.. فصاحِبُ الحَقِّ سُلطان، كما يقولون.. ونورُ الشمسِ، لا يستطيعُ أحدٌ أن يحجبه بغِربال.. فبعدَ وفاةِ جَدّي، ظلّت “أم أحمد ” العجوز الأرملة التي التجأتْ، يوماً، إليهِ، ليحميَها وليُنصِفها من “بيت أمين ” أقارِبِها ذوي النفوذ العَشائريّ، والذين كانَ لهم باعٌ طويلٌ في التجَسُّسِ لصالِحِ الفرنسيين، عندما تقاطَعَتْ مَصالِحُهم الخاصّة، معهم.. كانت تبكي بمَرارةِ مَن فقدَ كلّ أمَلٍ في الحياة، وتتمَرّغ فوق تُربَتِه، تأخذ “كَمْشَةَ ” تراب

 

تخفيها عن أعينِ الشامِتين.. تضعها في زجاجةٍ، تملؤها بالماءِ النظيف، وتشرب كلّ صباح، وتسقي منها أبناءها الذين ( تَيَتّموا مَرّتين ) كما كانت تندبُ، تحت سِياطِ شَماتةِ وتهديدِ أقاربها الذين قالوا لها :

-أين؟ أين تذهبينَ الآن، أيتها الشمطاء..؟؟ لقد مات.. مات.. وشَبِعَ مَوتاً، مَن كانَ يحميكِ….!!!

عُمِّرَتْ “أم أحمد ” إلى مافوقَ التسعين، ولم تنسَ، يوماً، فضائلَ “الشيخ مَجيد ” وزوجتِهِ الحَنونة “أم عادِل “…

كانت تبكي كلما رأت أيّ شخصٍ من عائلتِنا، وتقولُ، بصَوتٍ خفيضٍ، خوفاً من أن يسمعها أحدٌ من عائلة “بيت أمين ” الذي لم يكنْ- يوماً – حريصاً، سوى على مَصالِحِهِ الخاصّة :

-(ألله يرحم تراب اللي نزل عليك، يا شيخ مَجيد )…

تضمّنا وتبكي، وهي تتلفّتُ حَولَها، خوفاً من أحدٍ ما :

-(إبن الأصل، بيضلّ إبن أصل، يا بَيّي… اللّي جَرى لهالقَرعَة، ما حَدا بيعرفو، بعد ألله، غير جدّكن، وستّكن…. الدنب الأعوَج عمرو مابيصير مقَوّم، حتى لو حَطّوه بالقالب ميّة سنة… ألله يحميكن، يا بَيّي.. ألله يرحَم أصلكن..)

إنني أتشرّفُ بانتمائي إليكم، يا أسلافي.. أيها الشرَفاء العادلونَ الشجعان…

-لكن، يا ابنتي، لا يكفي أن نكونَ شجعاناً، كي نستطيعَ الدفاعَ عن حقوقِ أهلِنا، وأوطانِنا، في الحياةِ الحُرّةِ الكريمة… لا بُدّ من سلاحٍ مادّيٍّ قويّ، يدعَمُ الأسلحةَ المعنويةَ، ويحميها…

-لا تقلْ ذلك، يا جَدّي.. ففي هذا الزمان، يعتبرونكَ “إرهابياً “… كيف تطلبُ قوّةَ السلاح، إلى جانبِ قوّةِ الحَقِّ، والشجاعةِ، للدفاعِ عن النفسِ، والأهلِ، والوطن..؟!! في هذا الزمان، رأسُكَ، ورأسُ أمثالِكَ، هو المَطلوبُ الأوّلُ من قِبَلِ الغزاةِ، يا جَدّي….

” يبتسِمُ الشيخُ، ويهزّ رأسَهُ، ساخِراً.. “

-أحمدُ اللهَ أنني مِتُّ من زمان…

-وتضحكُ، أيضاً، يا جدي..؟!

-“شَرُّ البَليّةِ، ما يُضحِك..”

-أرجوكَ أن تُكمل، أيها العجوزُ الرائع…

– أحبَبتُ أن أخبرَكِ عن حالةِ جَدّك، والعائلة، والوطن، كي تفهَمي السببَ فيما سأرويهِ لكِ، لاحِقاً..

-أكمِل، باللهِ عليك..

-كانت فرنسا قد رَسّختْ أقدامَها في البلاد.. وكانَ قهرُ جَدّكِ “الشيخ مَجيد ” لا يُحتمَل، وهو يرى كلَّ ما دافعَ عنهُ، هوَ وباقي الثوّار، قد أصبَحَ تحتَ سيطرةِ الغزاة.. وأنّ التضحيات قد ذهَبت سُدى.. كان الجنود الفرنسيون قد بنوا بيوتاً من حِجارةِ القريةِ البُركانيةِ السوداء، وتمَركَزوا فوقَ جبلِ (الخَصيبَة ) قلعة الثوّار، التي منها ومن أبطالِها انطلَقتْ الرصاصةُ الأولى ضدّ الغزاةِ الماكِرين، الذينَ أرادوا أن يجعلوا من قُرانا مَعبَراً لقوّاتِهم من الساحلِ، إلى الداخل، والعاصمة دمشق، وبيروت، وغيرها من أجزاءِ الوطن.. والبحر.. تعرفين البحر.. فمنهُ، وعَبره، يستطيعون إمدادَ قوّاتهم بالمزيدِ من الدّعمِ العسكَريّ، من أسلحة، وجنود، وعتاد.. إلخ..

وعندما ثارَ الثوّارُ، استنكاراً، ورَفضاً لأن يكونوا مَطيّةً، أو مَعبراً للغزاة، لقتلِ أهلِهم، في الشمالِ، أو الشرقِ، أو الجنوب.. قاتَلَهمُ الغزاة…

-لاتشرحْ لي يا جَدّي.. فأنا أعلَمُ – ربما- أكثرَ ممّا تعلَم عن تلكَ الأيام، من أحاديثِ جَدّتي “أم عادِل ” رحمها الله، ومنكلِّ مَن عاصَرَ تلكَ المرحلة.. فقد حاوَلَ الغزاةُ تقسيمَ الوطنِ، جغرافياً، وفئوياً، ومَذهَبياً، ليسهلَ عليهم ابتلاعُهُ قطعةً، قطعة.. وأن ينصّبوا على كلّ فئةٍ، أو منطقةٍ جغرافيةٍ، زعيماً، يدعَمونهُ بكلّ ما يرغبُ من مالٍ، وجاه، ليسَهِّلَ لهم مَهَمّتهم الدنيئة.. لكنّ (الشيخ صالح ) كان من ضمنِ القادةِ المُتنوِّرين الحاذقين – كما تعلم – فلم يقبلْ إغراءاتهم، ورفضَ أن ينفصِلَ ساحِلُ البلادِ عن داخِلِها..

كانتِ الثورةُ في الساحِل، على اتصالٍ دائمٍ مع باقي الثوراتِ في الوطن.. كانَ جدي “الشيخ مَجيد ” من ضِمنِ رُسُلِ الشيخ صالح، إلى الزعيم (ابراهيم هَنانو ) وإلى غيرِهِ من القادَة، للتنسيقِ فيما بينَ الثوّار… الحديثُ يطولُ، يا جَدّي.. لكنني سأختصِره، وأكتفي هنا بما قالَهُ الشيخُ – من ضِمنِ ما قال – في أشعارِهِ الخالِدة :

( بني الغرب، لا أبغي من الحرب ثروةً…. ولا أترجّى نَيلَ جاهٍ، ومَنصبِ

ولكنني أسعى لعزّةٍ مَوطنٍ…. أبيٍّ، إلى كلّ النفوسِ مُحَبّبِ

كفاكم خِداعاً، وافتراءً، وخِسّةً…. وكَيداً، وعدواناً لأبناءِ يعربِ

تريدون – باسمِ الدين – تفريقَ أمّةٍ…. تسامى بَنوها فوقَ دينٍ، ومَذهَبِ

تعيشُ بدينِ الحبّ، قولاً، ونيّةً…. وتدفعُ عن أوطانها كلّ أجنبي

 فما شَرْعُ “عيسى” غيرُ شَرْعِ “محمّدٍ”…. وما الوطنُ الغالي،سوى الأمِّ، والأبِ..)

-لكنني أعرفُ أيضاً، أنّ بعضَ ضِعافِ النفوسِ، الذين صَدّقوا أنّ فرنسا جاءتْ لتحريرِهم من العثمانيين، ووَعَدَتهم بالرخاءِ، والمالِ، والجاه.. وأغلبهم كان ينقصُهُ المالُ والجاه، ويسيطرُ عليهِ الجَهلُ وفقدان البَصيرة، واستسهال تصديق الأقوى.. ساعَدَ الغزاةَ على أبناءِ وطنِه.. حتى هنا، في المُغترَب.. كان بعضُ هؤلاءِ يجمَعُ الأموالَ باسمِ الثورةِ،والثوّار.. لكنها كانت تذهبُ إلى جيوبهِ الخاصّة.. هؤلاءِ كانوا قِلّة.. لكنهم كانوا مؤثّرين…

-جَدّي.. إنني أتساءل : كيف يستطيعُ أحدٌ أن يفعلَ هذا..؟! كيف أستطيعُ أن أنامَ، وجاري جائعٌ، وأنا أعلَم..؟! كيف أستعينُ بالغريبِ على أبناءِ بلدي..؟! الغريبُ سيرحَلُ إلى بلادِهِ، مهما طالَ الزمن.. وتبقى الأرض.. يبقى الوطن.. بأهلِهِ وناسِه.. من كلّ ألوانِ الطيفِ، التي تزيدهُ جَمالاً ورَوعة…. هل نسيَ البعضُ أنّ مَن أعانَ ظالِماً على ظلمِهِ، لابُدَّ أن يصيبَهُ بعضٌ منَ العِقابِ الذي سيَلحَقُ بهذا الظالِم..؟! كيف ضَلَلنا، يا جدي..؟!

-إييييه..!! المُهِمّ، أنني أحببتُ أن أقولَ لكِ، أنّ جدكِ كان قد أصبحَ ذا طبعٍ قاسٍ جداً، نتيجةَ الظروفِ العائليةِ، وظروفِ الوطنِ كلِّها، التي فاقَتْ قدرَتهُ على التحَمّل.. فلاقاني ببرود.. أنا العائدُ منَ الغربةِ، إلى غربةٍ أشدّ قسوةً.. هي الغربة في الوطن…

فعندما تمكّنت فرنسا من بَسط سيطرتها على القرية، وعلى الوطن.. عَززت مَكانةَ مَن تعامَلوا معها، وسلّطتهم على رقابِ الثوّارِ الأباة.. ومنهم جَدّكِ، الذي اشتدّتْ عليهِ الأمراضُ، نتيجةَ الضغطِ العَصَبيّ، والنفسيّ، الذي سَبّبته لهُ هذه الأوضاعُ القاهِرة، وحُكمُ الغزاةِ على قائدِ الثورةِ بالإعدام.. فأخفاهُ الأهالي عن عيونهم، وعيونِ أعوانهم.. ممّا جعل فرنسا تنكّلُ بالأهالي أفظعَ تنكيل.. تلاحِقهم.. وتحرق قراهم، وتداهِم البيوتَ التي تظنّ أنّ الشيخَ مختبئٌ فيها، أو أنّ أصحابَها يعرفون عنه شيئاً.. لكن.. دون جَدوى.. فاضطرت فرنسا إلى إصدارِ عَفوٍ عن الشيخ.. على شرطِ أن يُسَلِّمَ نفسَه… فحاوَلَ جَدّكِ مَنعَهُ من ذلك.. دون جَدوى.. وكان الشيخُ قد استطاع إقناعَه، بعدَ جَهدٍ جَهيد، بتسليمِ سلاحِه.. لأنّ الثورةَ كانت قد فقدَت كلّ دَعمٍ مادّيٍّ ومعنويّ.. فسَلّمَ سلاحَهُ، وخرَجَ مرفوعَ الهامَةِ، مَكسورَ القلبِ، دون أن يُحَيّي أحداً، أو ينطقَ بأيةِ كلمة.. فاختلَفا.. نتيجةَ عِنادِ جدك، وحِكمة الشيخ.. لكنّ جدكِ أصَرّ على مُرافقةِ الشيخِ إلى “اللاذقية “.. وقالَ له :

-واللهِ، إن حاوَلوا أن يغدروا بكَ، كعادَتهم.. إن حاوَلوا قتلَكَ، يا صالح.. فسأقتلكَ.. ثمّ أقتل نفسي.. كي لا أدَعَ يَدَ غادِرٍ تمَسّك….

آه، يا جدي..

كان الغزاةُ والمُتعاملون معهم في أوْجِ سُلطتِهم، وغطرَستهم، آنذاك.. فكيفَ سيكونُ حالُ جدكِ، عندها..؟!

-أخبرني كيف طلبتَ جَدّتي للزواج.. فقد ارتفعَ ضغطي.. فهَلاّ رَطّبتَ الجَوّ قليلاً..؟!

-بأمرِكِ، يا جدي…

لم يكنْ يخفى على أحدٍ، أنني أريدُ الزواجَ من “سَكينة “.. الأرملة.. حبيبة الطفولة..

ذكّرتُها بأيامِ الطفولة.. وكيف كنا نرعى دوابنا، ونبني “بَيْتوناً ” ونحلمُ أننا زوجان، وأننا أنجبنا ولداً.. ونمسِكُ حَجَراً أبيضَ مستطيلاً، نلفه بخروق.. وندّعي أنه ابننا.. نحن الطفلانِ اللذانِ لم يتجاوزا السنة العاشرة من العمر…

ذكّرتها، كيفَ كانت تقول لي :

-ماذا سنسمّيهِ، يا صالح..؟!

-سليمان.. ما رأيكِ أنتِ..؟!

-مليح.. ومتى سنسجّله في الدّولة..؟!

-لن أسجّله.. كي لا يأخذوه إلى العَسكَر…

ضحكتْ سكينة، ضحكةً خجولة.. لكنني أعرفُ دَلَعَ النساء.. قالت لي، بحَياءٍ وأدَب، كثيراً ما كنتُ أحبهُ فيها :

-مازلتَ تذكرُ تلكَ الأيام..؟! لقد ذهَبت..

فأجَبتُها، بثقة :

-ما رأيكِ أن تعود..؟!

ترَدّدَتْ قليلاً.. لكنها وافقت، على شرطِ أن أسألَ ذويها، الذين وافقوا دون ترَدّد..

فقد كانوا متأكّدين أنني سأكون زوجاً صالِحاً، وبَديلاً صالِحاً، أيضاً، عن أبِ أبنائها.. لكنّ ابنتَها “جميلة ” كانت تكرهني.. لا أعرف لماذا..؟!

-لو تعلم، أنها توفيتْ في التسعينات من القرن العشرين، وكانت ماتزالُ حاقدةً عليك.. فقد أخذتَ منها أمها.. وزادَ من كرهها لك، أنكَ اصطحَبتها معكَ إلى الغربة، وتركتها وإخوتها اللذين كانت هي أكبرهم.. واضطرّت أن تكون لهم بَديلاً عن الأم، والأب.. في ذلك الوضع الإنسانيّ القاسي.. والذي لا يحتمله الرجال…

-تزوّجتُ سكينة.. سَكنا جميعاً، أنا وهي وطفلَين، وطفلتَين، في غرفةٍ حَجَريةٍ كبيرةٍ، واحدة.. قسَمناها بواسطة توابيتِ الحبوب، إلى غرفتين.. والدوابُّ تحتَ “السّيباط ” شتاءً.. وتحتَ “المْضَلِّة ” أمام البيت، صَيفاً…

حَمَلَتْ سكينة.. ومَنّ اللهُ علينا بتَوأمَين.. طفل، وطفلة.. كنتُ سعيداً بهما – حتى – أكثرَ من أمهما.. فقد كان لديها أبناء.. بينما لم أرَ وَلَدي الذي ماتَ مع أمهِ من زمان.. وكانا أوّلَ طفلَينِ لي.. لكن.. آه، يا جدي..!! هكذا توأدُ أحلامُنا دائماً..فلم يَطُل بهما الأمر، فقد توفيا بعد عدة أشهر من ولادتهما.. حَمَلناهما أنا وسكينة، لوَحدِنا.. تصَوّري..! دَفناهما في “الرّوَيْسِة “

اسألي أمكِ، فهيَ تعرفُ ذلك…

-وهل تظنّ نفسَكَ أنكَ أنتَ مَن تروي لي هذه الأحداث، يا جَدّي..؟!

-دَعيني أسترِح قليلاً على ذلكَ المقعَد.. فأنا سعيدٌ بيدِ جَدّتِكِ التي تتأبّطُ ساعديَ الأيمن.. وبيدِ ابنتي الوحيدة، التي تستلقي على كَتِفي…

-سأرخي ساعِدَكَ قليلاً، يا صالح.. فقد جاء دَوري للحديث..

-جَدّتي..!!

وحَضَنتها.. وحَضَنتني.. قبّلتها.. وقبّلتني.. لكنني بكيتُ أكثرَ منها…

-وافقتُ جدكِ على الهجرة إلى الأرجنتين، على مَضَض.. فالوضعُ في الوطن لم يعُد يُطاق، لكنني اعترَضتُ على ترك أبنائي، وكان أصغرهم “اسماعيل ” الذي وَلَدتُه بعد وفاة أبيه بعدة أشهر، فأطلقتُ عليه اسمَه.. كان مايزال في الثالثة عشرة من عمره.. قال لي صالح :

– سأعملُ أنا، ونرسل لهم نقوداً.. وعندما تتحسّن أحوالُنا المادية، نسحَبهم إلى عندنا…

لكن ذلك لم يتحقق طيلةَ حياتنا.. أنا أعذرُ جدكِ.. لأنّ الوضع لم يكن مناسباً، أبداً، لذلك.. فلو سحبناهم، لضاعوا في تلك الغربة.. كانوا شباباً، وفي سن الزواج.. فكيف سيتأقلمون مع مجتمعٍ مختلفٍ تماماً عن مجتمعهم..؟!

-“مو قاهرني غيرك، يا اسماعيل..” قلتُ لطِفلي الأصغر، الذي ألقى نفسه في حضني، لآخر مرة.. وراحَ يتمرّغ ماسِحاً دموعَهُ بفستاني، بعد عودتي من جلبِ الحَشيش.. مَسَحتُ وجهَهُ بكفيَ الخشِنة.. لكنّ أحداً لم يمسحْ دموعي…

آخ..!!يا جدتي.. لأختصر لكِ قليلاً.. فلحظاتً الوَداعِ قاتلة…

فقد وصَلنا إلى “الروخاس ” عام 1929م.. ولم يكنْ بحَوزتنا سوى القليل من المال…

سَكنّا في غرفةٍ قديمةٍ جداً.. رطبة، ومُعتِمة.. على أطرافِ المدينة.. بقينا مدةً نعيش على الخبز والمَتّة.. فقد كان جارُنا العربيّ، من قرى اللاذقية، ويُدعى “حْوَيسِة ” وهو لقبُه.. يبيع الخبز على عرَبةٍ جَوّالة.. قال له جدكِ، منذ وصولِنا :

-يا أخي، يا حْوَيسِة… هل تستطيع إقراضَنا الخبزَ، من الآن، إلى أن أجِدَ عَملاً.. وعندها سأوَفيكَ ديونَكَ كلّها، فورَ توَفرها معي..؟!

فقال له التاجر :

-والله يا أخوَيّ.. لو طلبتما أن تأكلاني أنا، لأطعمتكما نفسي…

بكينا أنا وجدكِ.. ورحنا نستدين…

كان جدكِ صاحِبَ تفكيرٍ سليم.. هِمّتُه عالية.. وبَصيرَته نافذة.. وإيمانُه مُطلقٌ باللهِ تعالى.. فتوَكّلَ على الله، واستدانَ من مُغترِبٍ آخر، يسكن على بُعْدِ حوالي أربعين كيلومتر من الروخاس، في مدينةٍ اسمها “بارغامينو “.. نسيتُ اسمَهُ الآن.. آ.. آ.. إنهُ أخو زوجتِهِ الأولى المسكينة آمِنة.. استدانَ منهُ/500/ ريال.. ومن مُغترِبٍ آخرَ من “الفِندارَة ” /500/ ريال أخرى.. واشترى بها سيارة قديمة جداً.. كان يقودُها بنفسِهِ، ومعهُ حقيبةٌ معدنيةٌ فيها مفكّات براغي، ومادة لكَشفِ الذهَب، وميزان صغير للذهب، وعَزقات، وأشياء أخرى كثيرة تصلحُ للعمل…

كان يتركني في غرفتي وحيدة.. أعيش على الخبز والمتة، عدة أيام.. قبل أن يعود.. يسافر في أرض الله الواسعة، طالِباً الرزقَ الحَلال.. يقودُ سيارته المُهترئة، مسافة تطول أو تقصر.. يبيع التبغَ المُهَرّب أيضاً.. كنتُ ألفّ التبغَ بعَباءةِ “الشيخ يوسف ” ألله يقدّس روحه… وأخفيها في أسفل السيارة، في مكان آمِنٍ من الدّوريات.. وكثيراً ما قال لي صالح، أن أعضاء الدوريات كانوا يقلّبونها في كلِّ الإتجاهات، أثناء التفتيش، دون أن يهتدوا إلى ما في داخلِها.. لكن السيارة العتيقة، كثيراً ما كانت تتعطّل، فيتركها على جانب الطريق الوَعرة، ويحمل حقيبته المعدنية، ويسافر سيراً على الأقدام، ليجدَ أناساً يحتاجون إلى تصليحِ دَرّاساتٍ، أو حَصّادات، أو ماكينات خياطة.. أو يبيعُ ويشتري قِطعَ الذهَبِ الصغيرة.. حتى تتوفرَ معهُ كميةٌ من النقود، فيعود ليُصلِحَ بها السيارة.. وقد يحتاج إلى استبدالِ قطعةٍ مُهترئة، بأخرى جديدة.. ويعود ليقودَها ثانيةً.. وهكذا…

مرّةً، اضطرّ أن يغيبَ عني مدةً، أكثرَ من العادة.. لم أرَ خلالَها إنساناً.. وفي يوم، دَقّ إبن عَرَب الباب، ففتحته له، وأنا محنية الظهرِ.. سألني : مابكِ، يا زوجة عمي..؟! هل أنتِ مريضة..؟! أينَ عمي..؟!

-عمّكَ مسافرٌ، منذ عدة أيامٍ، يا بُنيّ.. وأنا مَيّتة من الجوع…

-لا حَولَ ولا قوةَ إلاّ باللهِ العليّ العظيم.. لا عَليكِ، يا زوجة عمي…

وذهبَ ابنُ الحَلال، جَزاه الله خيراً، واشترى لي بعضَ الطعام، ووعدني أن يبقى يكشف عليّ ، ويزوّدني بما أحتاجهُ، إلى حين عَودة جَدِّك..

وعندما عاد.. أخبرتُهُ بما جَرى، وأنا أبكي.. بكى هو الآخر، وجَلسنا نفكّرُ بحالِنا، كيف نتصرّف..

قلتُ له :

-لاتعُد، وتتركني وحيدةً، ياصالح..

أجابَني مَقهوراً :

-إذاً.. كيفَ سنؤمِّنُ قوتَ يومِنا..؟!

-سأساعِدكَ، يا صالح.. أحضِر لي كميةً من الصوفِ، وكميّةً من خيطانِ الكروشيه، وصَنارة.. وأنا سأريكَ كيفَ أساعِدُك…

ففعَل…

صِرتُ أنقّي الصوفَ، وأغسله، ثمّ أجَففه، وأغزلهُ بالمغزلِ اليدَويّ، خيوطاً، ألفّها كَكُراتٍ كبيرة.. أصبغها بألوان غامِقة.. وأنسجُها كنزات، أرسلها لأولادي في الوطن.. كلّ على مَقاسِه.. وأشتغلُ أطقماً للطرَبيزات، وأغطيةً للأواني، من الكروشيه.. أو ستائرَ، أنقعُها بالنشاء، ثمّ أجَفّفها، وأكويها، وأرسلها للبيع.. لكن.. ألله يلعن الظالِمين…

-ماذا تذكّرتِ، يا جَدّتي..؟!

 

-تذكّرتُ ذلكَ الماكِر، الذي أرسلتُ معه مرةً، طقماً من الكروشيه، كان أجملَ ما نَسَجتُه.. كان بائعاً جَوّالاً، من إحدى القرى القريبة من طرطوس.. قلتُ له :

-بِعهُ لي، وخذ حقكَ من ثمنه..

واتفقنا على ذلك.. لكن.. مَرّ شهرٌ.. شهران.. ثلاثة.. وأكثر.. وكلما رأيتُه، أسأله عن الطقم، فيجيب بأنّ أحداً لم يشترِهِ منهُ، بَعدُ…

وكنتُ في هذه الأثناء، قد اشتغلتُ وبِعتُ عدة أطقم.. كنتُ أسهرُ حتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل.. “أكْبي ” كثيراً.. لكنني أعودُ لأوقِظَ نفسي.. فالوقتُ للعمل، وليسَ للنوم، يا سكينة.. أطفالُكِ في الوطنِ جائعونَ وعَريانون.. وزوجُكِ غيرُ قادرٍ، بمُفرَدِهِ، على تأمينِ ما يكفي لكما.. فكيفَ سيستطيعُ أن يَفيَ بوَعده، ويرسلَ لهم ما يسدّون بهِ رَمَقهم، أو يكسوه.. إن لم تساعِديهِ بكلِّ طاقتِكِ، يا سكينة..؟!

وآخر مرةٍ رأيتُ ذلكَ الشخص، سألتُه، بتذمّر :

-ألَم تبِعهُ حتى الآن..؟! لقد بِعتُ – وأنا هنا – دون أن أسافرَ إلى أيِّ مكان، عدداً كبيراً من الأطقم، أقلّ جودَةً منه.. فكيفَ لم يشترِهِ منكَ أحدٌ، حتى الآن..؟! ثمّ.. إن كان معكَ، اعطِني إياهُ، لأبيعَهُ هنا.. فقد اكتسَبتُ ثقةَ الجميع، وصارَ الطلَبُ على شغلي يزدادُ يوماً، بعدَ يوم..!!

فأجابَني بفظاظةٍ، واستخفاف :

-لقد بِعتُهُ من زمان.. وزَكّيتُ ثمَنهُ عن روحِ أبيكِ…

-ألله يحرق روح أبيك، يا كَذّاب…

بكيتُ كثيراً.. ولم أخبرْ جدكِ، كي لا أزيدَ من مَتاعِبه.. فالخطأ خطئي.. لكن، الحمد لله.. تعلّمتُ أن أعتمدَ على نفسي، أكثرَ بكثير مما أعتمد على الآخرين، في تصريفِ أموري.. ودَلّتني هذه الحادثة، أنّ هناكَ أناساً مُخادِعين، علينا الحذر منهم.. فكما يقولون ( رزق الدّشارْ، بيعَلِّم ولاد الحَرام، السّرقة )…

-مايُعزّينا، يا جَدّتي.. أنّ الخيرَ أبقى…

-الحَمدُ للهِ.. جَلّ اسمُه…

بعدَ مدة، استطعنا توفيرَ بعضِ المال، وأرسلناهُ مع بعض الكنزات وأشياء أخرى، إلى أبنائي في الوطن…

كان صالح يشعرُ بالمسؤوليةِ تجاهَ أبنائي، أكثر بكثير مما يشعر تجاه أهله وإخوته.. ولم يتقاعَس، يوماً، عن إرسالِ كلّ ما يقدر عليه من مالٍ، ولِباس، وغير ذلكَ مما يحتاجونهُ، طيلةَ حياتِنا…

-هل تعلمينَ، يا جَدّتي، أنّ خالي “الشيخ اسماعيل ” مايزالُ يحتفظُ ببعضِ الثيابِ التي كنتِ ترسلينها له..؟! وقد أخبرَنا أنكِ أرسلتِ لهُ، يومَ زفافِه، فستاناً لعَروسِهِ، لبستهُ يوم العرس..؟!

-عيني اسماعيل، مازالَ يذكرني..؟!

-بل، ومازالَ يقولُ أنّ أطيَبَ رائحةِ عِطرٍ في العالَم، هيَ رائحةُ عَرَقِ أمِّه.. وأنهُ لا يستطيعُ أن ينامَ، قبلَ أن يستحضِرَ رائحةَ عَرَقِك، وشكلَ وَجهِكِ، الذي لم يفارِقهُ، يوماً، منذ أن وَدّعتِهم في ذلكَ اليومِ الحزين.. وماتزالُ صورَتُكِ، مع جدي، وأمي، مُعَلّقةً على حائطِ بيته.. ومع أنها بالأبيضِ، والأسوَد، إلاّ أنهُ يؤكّدُ أنّ فستانكِ كانَ لونُهُ أخضر.. وأنهُ يُشبهُ فستانَكِ الذي كنتِ ترتدينهُ عندَ عَودَتِكِ من جَلبِ الحَشيشِ، حينَ دَسّ نفسَهُ في حضنكِ، لآخرِ مَرة، وشَمّ رائحةَ عَرَقِك…

(تبكي جَدّتي، بمَرارةٍ، وتُتابِع ) :

-كنا نرسِلُ لهمُ النقودَ بالدّولار.. كلّ مئة، أو مئتيّ دولار، أو خمسين، لفلان.. وأخرى لفلانة.. فيصَرِّفها لهم ذوي الخِبرةِ في ذلك.. ويُسَلِّمهم إياها أمامَ شُهودٍ، ويُعْلِموننا بذلكَ، برسالةٍ موَثّقةٍ من أهلِ الثقة…

كنا نتابعُ أخبارَهم، وأخبارَ الوطنِ، أوّلاً بأوّل.. لكنّ الرسائلَ المَكتوبةَ والشفهية، كانت تبقى أشهُراً كي تصِلَنا بهم، أو تصِلَهم بنا.. ولم ينسَ أهلَهُ، أو أهليَ الأقرَبينَ والأبعَدين…

كنا نرسِلُ للجميعِ، كلَّ مانستطيعُ تأمينهُ لهم من مالٍ، ولِباسٍ، وأحذية، وبعض قطَع الذهَبِ الصغيرة، وماكينات خياطة، وساعات يد، وأخرى يعلِّقها الرّجالُ بسِلسِلةٍ في قَبّةِ القميصِ، ويضعونها في جيوبهم…

آه.. يا جَدّتي..!! ما أصعَبَ الغُربة..!!

-هل ترغبينَ أن تستريحي قليلاً، يا جَدّتي..؟! إنني أرى وَجهَكِ يميلُ إلى الإصفِرار، وجسمَكِ يرتجِف..!!

-لا عَليكِ يا جَدّتي.. سأستنِدُ قليلاً على كَتفِ صالح، ثمّ أتابعُ الحَديث…

تنهّدّتْ جَدّتي بعُمقٍ، وأغمَضتْ عينيها، مُبتلِعَةً غصّةً، لم يمحُها الموتُ، قبلَ أن تتابع :

-بعدَ سَنتينِ من وصولِنا، وفي الحادي والعشرين من آذار عام 1931م وُلِدَت ابنتي “مَريَم “… فرِحتُ بها كثيراً.. لكنّ فرَحَ جدكِ كان أكبر.. فهيَ أوّلُ وآخرُ أبنائه…

آه.. كم كنتِ جميلةً يا مَريَم..!!

-ومازالت أكثرَ جَمالاً، يا جَدّتي.. حتى وهيَ تقارِبُ الثمانين…

-لا.. ليست في الثمانين.. إنها ماتزالُ أمامي، تلكَ الطفلة الجميلة الوادِعة.. إنني مازلتُ أراها تُشاكِسُني، وتكبرُ، ويكبرُ فرَحُنا معها.. لقد رَبيناها “كلّ شِبْر، بندر ” كما يقولون…

-أمي……. وبكَتْ مَريَم “… لاتُصَدّقي بَتول.. فلم أبلغ الثمانينَ، بَعدُ.. لكنني تجاوَزتُ الخامسة والسبعين.. وتلكَ العَنيدة ” وتضربني أمي على كَتِفي.. أو تقرصُني في زندي – كعادَتِها – قبلَ أن تتابع ” :

-ابنتي طالِعة لعائلةِ أبيها، يا أمي.. مع أنني حاوَلتُ، جاهِدَةً، أن أجعَلَ منها إنسانةً مُسالِمة.. مثلي، ومثلكِ.. دون جَدوى.. فهيَ عنيدة.. وتُصِرُّ – كما تقول – على ألاّ تجعلَكم تموتونَ، وتستريحونَ من هذهِ الدنيا.. لذلكَ طلبتْ مني، وألَحّت بالطلَب، أن أحكي لها ذِكرَياتي عنِ الغُربَة.. كي تسجِّلَها على الوَرَق.. وتجمَعَها في كِتاب.. هيَ تزعمُ أنها ستُخلّدنا في كِتاب.. لكنني – والكلامُ في سِرِّكِ، يا أمي – كنتُ سعيدةً باستِحضارِ تلكَ الأيامِ، والسنين، والأحداث التي عشتُها معكم…

كم أضحَكَتني المَلعونة..!! وكم أبكَتني..!! وأنا أسردُ لها بعضاً ممّا تبقّى في ذاكِرَتي من أحداث.. لكنها أعادَتني إلى زمَنٍ جميل.. زمَنِ عيشتي معكم…

“وتبكي مريم.. وهيَ تحضنُ والدَيها، قائلةً ” :

-يقولونَ لي، إنني كنتُ أهذي، عندما كنتُ أستيقظُ منَ المُخدِّرِ، بعدَ أن أجرى ليَ الأطباءُ العمَليّةَ الجراحيةَ الخامسة، على جَسَدي المُتعَب… كانت عمليةَ تجبيرِ كَسرٍ في الوركِ الأيسَرِ، والزندِ الأيمن.. عندما سقطتُ قربَ المِغسَلة.. وحاوَلَ “عادِل ” أن يُنهِضَني، ماسِكاً زندي بقوّة.. دونَ جَدوى.. فكَبَسَ زرَّ “الأنترفون ” ليرفعَ ابني “محمود ” السمّاعةَ من بيتِهِ القريب :

-تعالَ بسُرعة.. أمكَ سقطتْ.. وأنا لا أستطيعُ أن أُنهِضَها…

فأسرَعَ محمود، وزوجته، وابناهما.. ساعَدوا زوجي على إنهاضي، وطلبوا لي الطبيب، الذي أخبر سيارة الإسعاف الوحيدة في المنطقة، ونقلوني إلى طرطوس.. إلى ذلك المشفى الذي يطل على البحر، حيث أجريَت لي عملية التجبير، ووضع صَفائح معدنية لتدعم العظم الضعيفَ الهَشّ…

يقولون لي إنني كنت أهذي، وأقول :

-لماذا جاؤوا بي إلى قرب البحر..؟! لماذا..؟! لماذا..؟! ألا يعرفون ماذا يفعَلُ البحرُ بي..؟!

أمي.. أبي..!!

أين أنت الآن يا أمي..؟! أين أنت يا أبي..؟!

إذا مِتُّ سيدفنونني هنا.. “وأبكي بمَرارَة “.. لن يأخذني أحدٌ لأدفنَ قربكما، يا أمي، ويا أبي… لماذا..؟! لماذا..؟!

فيبكي جميعُ مَن حَولي، من أبنائي وأقاربي ومَعارفنا…

تذكّرتُ، يا أمي، تلكَ المناديل المُلوّنة، وتلك الشموع المُضاءة، التي كانت تختفي بالتدريج، عن شاطئ المُحيطِ الأطلسيّ من الغرب…

عندما أطلقَتْ “أوغوستوس ” أنينَها، مُعلِنةً الرحيل…

نحوَ الشرقِ، كان الرحيلُ، يا أمي…

التقطَ “عادِل ” منكما “سليمان ” ابن العام وأقلّ من شهر.. وكأنه التقطَ آخرَ قطعةٍ من روحَيكُما..

حَمَلهُ، ورفعه بين يديه، ماسِكاً ساعِدَه، ليلوّحَ الصغيرُ بها، كما نفعلُ نحن، وجميع المسافرينَ والمُوَدِّعينَ، على الشاطئ…

كان بَطني يلوّحُ أمامي، كما كانت تلوح تلك المناديل.. كانت هذه “الشقيّةُ ” تسبحُ في داخِلِه…

أذكُرُ أنّ بطني اصطدَمَ ببطنِ ابنةِ خالي الحامل، ونحن نقبّلُ بعضنا، عند الوداع.. فأثارَ ذلك بعضَ الضحك…

كذبتُ عليكما، يا أمي، حين قلت لكما إنني في شهري الخامس.. بينما الحقيقة، إنني كنت في شهري السابع…

وما يزالُ “عادِل ” يقول :

-كادَتْ “بَتول ” تولَدُ في البحر…

لم أكن أصَدّق أنه الوداع الأخير… كنت أظن أننا سنبقى عدة أشهر.. أو، ربما عاماً، على الأكثر، حتى يدبّرَ عادل، حالَ أهله في الوطن، ثم نعود…

كنتُ في شوقٍ لرؤيةِ ذلكَ الوطنِ الذي كنتما تحبانهِ، إلى درَجةِ العِبادة.. وزرَعتما في قلبي وفي روحي، حُبّهُ وتقديسَه… كنت راغبة برؤية أقاربي.. بيت عمي، أهل عادل.. وإخوتي، وأهلي الباقين في الوطن…

لقد زرعتما في نفسي، أنهم امتدادي.. وأنّ (الأرجنتين ).. ذلك البلد الذي وُلِدتُ وعشت فيه أكثر من اثنتين وعشرين عاماً.. كان لا يتعَدّى كَونه (غُربَة )… فأوحَيتِ لي يا أمي، أن أرسل رسالةً باللغة العربية، إلى عمي (الشيخ مجيد ).. أستعطفه، أنني إذا مات أبوايَ، فمَن يبقى لي، يا عَمي..؟! وكيف سيكون حالي في تلك الغربة..؟!

وأرفقتُ الرسالةَ بصورةٍ لنا نحن الثلاثة…

فأجابَني عمي، برسالةٍ كلها عاطفة، ومحبة، وثقة، وتطمين :

-لن نتركك وحدك يا عمي.. فنحن أهلك.. لا تخافي.. بل، واطمئني.. هذه صورة ابن عمك (عادل ).. فإن أعجبك.. فسنكون سعيدين بذلك.. وسنرسله إلى عندكم… ونزوجكما… أنت ابنتنا أيضاً، يا عمي.. ولن نتخلى عنك –أبداً- …

آه.. كم بكيتما على تلك الرسالة يا أمي..!!

آه.. يا أبي..!!

فأرسل أبي رسالة جوابيةً لأخيه :

-إذا كان هذا رأيكم.. فليسَ لدينا مانِع…

وجاء عادل…

ترك المدرسة، يا بَتول… اكتبي… لقد ظلّت حُرقةً في قلبه، أنه ترَكَ المَدرسة… وأنا أشعرُ بالذنبِ، أنّ ذلكَ كان بسبَبي أنا…

تخلّى عن طموحِهِ من أجلي… فكيف لا أحبهُ، وبهذا الشكلِ، رغمَ كلِّ الصعوباتِ التي اعترَضتنا في حياتنا..؟!

بقي 33 يوماً في البحر..مابين مرفأ بيروت، وميناء بوينوس آيرس… منها ستة أيام توقّف في جَنَوَة لتبديل الباخرة…

لم يستطعْ أبي أن يرافقنا لاستقباله.. كان مريضاً، يا ابنتي.. ركبنا أنا وأمي، القطار العجوز الذي يعمل على الفحم، من الروخاس، إلى العاصمة بوينوس آيرس… بقينا حوالي ستّ ساعات سفَر.. نزلنا في بيت خالي (الشيخ سالم غانم ) في (شارع روساريو 205 )…

صارت بنات خالي يضحكن عليّ :

-إي.. والله أنيقة أكثر من العادة.. ذاهبة لمُلاقاة العَريس..!!

كنتُ أرتدي فستاناً زيتياً، تقطيعاتُهُ ناعِمة.. وأضعُ وَردةً في شَعريَ المُصَفّفِ، وشَكلةً أزيّنُ بها صَدرَ فستاني..

رافقَنا خالي وعائلته، وشابٌّ آخر، كان قد طلبني للزواج، ولم أوافق..

ذهبنا جميعاً لاستقبال عادل.. وقفنا على الميناء، نراقب القادمين…

باخرة ترسو.. وأخرى تغادر…

مجموعات من الناس تبكي الوداع.. وأخرى تفرح باللقاء..

وعندما رسَتِ الباخرة التي تقلّ عادل.. استنفرنا جميعاً.. حِرنا.. كيف سنعرفه..؟! وكيف سيعرفنا..؟! ولم يرَ أحدُنا الآخرَ من قبل..؟! وَلوَلَتْ زوجةُ خالي :

-وَيلي أنا.. سيضيعُ الصّبي..!!

نهَرَها خالي :

-لن يضيع.. لن يضيع..

كانوا يضعونَ المُسافِرين الصّغار، أو الذين لا يرافقهم أحد، في مَقصوراتٍ خاصّة.. يُنزِلونهم واحِداً.. واحِداً.. مُنادينَ على كلِّ واحِدٍ باسمِه.. ويُسَلّمونهُ لأقاربه.. أو، لمَن عليهِ أن يستلِمَه.. بأوراقٍ رسمية، توقّع عليها الجِهةُ المُسَلِّمة.. والجهةُ المُستلِمة…

وعندما جاء دَورُ هؤلاء بالنزول، رحنا نراقبُ الأسماءَ بدِقة.. وأنا أتضاحَكُ مع بنات خالي.. كلّما رأيتُ شاباً جميلاً، أقول :

-ياربّ يكون هذا..

وبعد قليل، سمعنا :

-(آديل مَجيد آدِيل )…

تسارَعَت دقّاتُ قلوبنا، كما تسارَعَت حركاتُ العيون، وازدادَتِ الحَرَكةُ في أرواحِنا وأجسادِنا جميعاً.. وكلّ واحدٍ منا يُدَققُ النظرَ بالنازلينَ من السفينة، عَلّ شيئاً مُمَيّزاً، أو أية علامةٍ تدلّنا بشكلٍ أسرَع على ابنِ عمي…

حَدّقنا أنا وأمي أكثر من الجميع.. وصِحنا معاً، حين رأيناه :

-هذا..!! إنه هذا..!! هو عادِل…

إنه يشبه عائلتنا يا أمي…

اقترَبنا منه بلَهفة… بادَرَنا بالكلام :

-أنا عادِل.. مَن أنتم..؟!

أجَبتُهُ أنا :

-أنا ابنةُ عَمكَ مَريَم.. وهذهِ أمي…

وَقّعَتْ أمي على استِلامِه…

-وهذا خالي وزوجته وأبناؤه وبناته.. وهذا.. عريس قديم.. لكن، عليكَ ألاّ تغر.. فقد تزوّج منذ مدة…

مازَحَني :

-خَدَعتِني.. كنتِ تبدين في الصورةِ أجمَل…

ضحكنا جميعاً…

بكَت أمي وزوجة خالي…

-إنهُ من رائحة الوطن.. من رائحة الأهل…

-وَيلي أنا.. إنه صغير.. صغير جداً.. هذا سيعرفُ كيف يتزوج..؟!

كان يبدو مُرهَقاً، حزيناً على فراق أهله، ووطنه… نظراته مُستغرِبةً عالَماً لم يألَفهُ بَعد…

كان ذلكَ في حوالي مُنتصف كانون الأول من عام 1950م… كان الأهل في سورية يحتفلون بعيدِ البَربارَة، في أوائلِ فصلِ الشتاء… أما في الأرجنتين، فقد كان الوقتُ صيفاً…

وقد أخبرتني أخته، أن أمه، زوجة عمي حليمة، ومنذ أن غادَرَ عادِلُ الوطن، ظلّت تبكي فراقه، وتغني حُزنها عليهِ، مُرَدِّدَةً هذا المَوّال الحزين :

(أنا.. يا امّي.. لَجدّ السير، وانهارْ…..

واقطَعْ هالبَراري، جْبالْ ونْهار……

بالله عليك، ياطير.. روحْ لَجَنب الدارْ، وانهارْ….

وصيحْ بصوتْ، فَيّقْ لي الضّنا….)….

***

بقينا عدة أشهر مخطوبَين.. تعَرّفنا خِلالَها على بعضِنا، وأحبَبنا بعضَنا…

كان بيتُنا مِحَجّةً لأبناءِ العَرَب.. كان أبي يحرص على احتِضانِ الفقراءِ منهم، ومَن تقطّعَتْ بهمُ السُّبُل.. يؤويهم.. يطعِمهم.. ويهتمُّ بهِم…

وفي مرةٍ، كان قد أحضَرَ واحِداً من هؤلاء، فصارَ ينظرُ إليّ نظراتٍ أغاظتني.. فأيقظتُ عادِل من نومَةِ القيلولةِ، بعدَ عَودَتهِ من المَتجَرِ، مُتعَباً.. وأخبَرتُهُ بذلك…

فنظَرَ إليهِ نظرةَ تحذيرٍ، عاقِداً بينَ عَينيه، مُشيراً إلى أنّ ابنةَ عَمّهِ، من الآن فصاعِداً، هيَ عِرضُه، وخطيبته.. وهوَ حاميها.. ومَن يقتربُ منها بهذا الغرَضِ، سيَلقى جَزاءة…

وكتبَ لي قصيدةً، تذكّرَ أغلبَ أبياتِها، بعد أكثرَ من نصفِ قرنٍ، عَقِبَ قيامي بالسلامةِ من عملية تجبيرِ الكسر، وقرأها على مَسامِعي، بتأثّرٍ بالِغ، هيَ وقصيدة أخرى،كتبها – وهوَ يبكي – عندما وَضعوني على الحَمّالة، وأخرَجوني من البيت، وأدخَلوني في سيارةِ الإسعاف.. ظنّ، حينها، أنه لن يراني بعدَها.. فجَلسَ يبكي وحيداً طوالَ الليل، وكتبَ القصيدةَ، التي بدأها بعِتابٍ رَقيق :

 (رَحَلتِ..؟! ).. أما القصيدة الأولى، فكان قد بدأها بقولِه :

(أماريّا.. برَبِّكِ، مادَهاكِ..؟! )….

في بداية شهر نيسان عام 1951م، قال أبي لخالي :

-سأرسلهما إليك، تقرأ فاتحتهما، وتزوّجهما على سُنةِ اللهِ ورَسولِه…

بقينا عدة أيام في بيت خالي، وهوَ يترَقبُ الأيامَ المُبارَكةَ التي يمكن له أن يقرأ فاتحتنا خلالها…

كنتُ أنامُ بين بنات خالي، في غرفتِهنّ الخاصّة.. نضحكُ كثيراً.. ونترَقّبُ ذلكَ اليومَ الكريم…

وحينَ يُدرِكنا التعبُ، ننام.. لكنّ إحدى بنات خالي كانت توقظني وهيَ تضحك:

-وْلِكْ لا تنامي.. لا تنامي…

قد يُعلِنُ أبي بعدَ قليل، أنّ هذا اليومَ مُبارَك…

فأرفعُ يَدَيّ بالصّلاةِ، أن يحصلَ هذا…

-يا الله… هَيّئي نفسَكِ للزواج.. وإن كان خطيبُكِ خَجِلاً، شَجِّعيهِ أنتِ…

-أينَ ستهربان..؟! سنراقبكما من النافذة…

تزوّجنا في الثالث عشر من نيسان 1951م.. في غرفةٍ من بيتِ خالي، كانوا قد خَصّصوها لنا… وفي الصباح.. حَيّيتُ زوجةَ خالي، التي استيقظت قبلَ الجميع :

-ألله يصَبّحِك بالخير، يا زوجة خالي..

-ألله يسعد صباحِك، يا مَريَم… مُبارَكٌ يا ابنتي…

-كيفَ عرفتِ..؟!

-من بعضِ القطراتِ الحمراء في التواليت…

قضَينا عدةَ أيامٍ أخرى في بيتِ خالي… عُدنا بَعدَها إلى الرّوخاس…

وبعدَ شهرَين، حَملتُ… وكانت أمي أولَ مَن لاحَظَ ذلك.. فقد كنتُ، أحياناً، أتقيّأ عند استيقاظي…

فرحت أمي كثيراً.. وشرَحَتْ لي عَوارِضَ الحَملِ، التي عَليّ التأقلم معها… وأوصَتني عدةَ وصايا.. لكنها لم تنفع.. فقد أسقطتُ حَملي بعدَ ثلاثةِ أشهر.. دونَ سَبَبٍ ظاهِر…

كانت أمي قد أخبَرَت أبي أنني حامِل، بطريقةٍ غير مباشِرة… فقد كان يصطحبنا – كعادته كل يوم أحد – في السيارة التي يقودها بسُرعَةٍ كبيرة، على طريقٍ ليست جيدة.. وكثيراً ما كنا نحن الثلاثة نقفز فوق مقاعدنا، إذا صادفت العجلات حفرة في الطريق.. فصارت أمي تنبه أبي أن عليه تخفيف السرعة من الآن فصاعداً، نظراً للظروف المُستجدة…

حاولت منعها.. لأنني كنت أخجل إن عرف أبي أنني حامل.. لكن أمي أعادت الطلب منه بتخفيف السرعة، وهي تقول :

-سيكون سعيداً جداً، إذا عرف.. سيكون عيداً عنده…

كان أبي دائماً يوصي عادل أن يتعامل معي بحنان، ولطافة.. مما كان يُغضبه.. ففي رأيه أن هذه الوصايا غير لازمة.. فهو يعرف واجبه تجاهي.. كان أيضاً، يحاول أن يعلمه في البيت، مالم يستطع أن يتعلمه في المدرسة من علوم اللغة العربية والسبنيولية، والتراث، وغير ذلك من العلوم… واستطاع عادل في تلك الأثناء، أن يحصل على علوم لا بأس بها.. كان شاكراً لعمه أنهُ أتاحَ له المَجالَ لذلك.. إذ كان قد ترَكَ المدرسة وهو في الصف الثامِن، وجاءَ ليتزوّجَني…

بعدَ إجهاضي بعدةِ أشهر، حَمَلتُ، ثانيةً، بأخيكِ “سليمان “… كبرَ بطني كثيراً.. وعندما دخلتُ في أيامِ الوِلادة، كان الحَملُ قد أتعَبَني كثيراً، فطلبتُ منهم أن يُدخِلوني المشفى…

الطبيبُ الذي أشرَف على ولادتي، كان أعرَج.. خجلتُ كثيراً منهُ، أوّل الأمر.. لكنني احتَجَجتُ بقوة، عندما أدخَلَ طبيباً آخر، يبدو أنهُ مُتدرّب :

-طبيبي، لا عَليهِ إن رآني.. أما هذا الآخر، فلن أدَعه يراني…

بقيتُ هناكَ عدة أيام، قبل الولادةِ التي كانت طبيعيةً، لكنها قاسية…

حَمَلتِ المُمرّضةُ أخاكِ، ووضعتهُ في الميزان، قبل أن تأتيني بهِ مَلفوفاً بثيابٍ بيضاءَ من القطنِ الناعِم، كنا قد صَنعناها أنا وأمي، وطَرّزنا عليها بألوانٍ هادِئة، زهوراً، وأرانبَ، وطيوراً وادِعة…

وضعته في حضني، قائلةً، وهيَ ترسمُ علامةَ الصليبِ على صَدرها :

-يخزي العين.. إنه كالخنزير…

كان وزنُهُ أربعة كيلو غرامات، ومئتيّ غرام…

عُدنا إلى البيت…

آه..!! كم فرحنا بكَ يا حبيبي… رحمكَ الله يا سليمان…

كان أبوكَ يلاعبكَ، والفرَحُ يملأ كَيانه..وكذلكَ جَدّكَ، كان يضعكَ في حضنه، بعد أن ينزعَ الحِفاضَ عن إليَتِك.. فنؤنّبهُ قائلين:

-قد يعملها فوق ثيابك..!!1فيُجيب :

-الدنيا حَرّ.. حَرّ شديد.. ثمّ، إن عملها، فماذا يحصل..؟! افعَلْها يا جَدّي..إن كان عليكَ “شُخاخَة ” افعَلها في حضني…

وعندما يفعَلها على قميصِه، نضحَكُ عليه.. فيقول :

-كلّها نقطة ماء من طفلٍ طاهِر.. فليفعَلْها.. مابها..!!

-سيكونُ لهُ شأنٌ عَظيم.. سيكونُ شخصيّةً مُهِمّة.. وينالُ شُهرَةً واسِعة.. سيكونُ مَحبوباً من الناس.. وفَعّالاً للخير…”

هكذا تنبّأ لكَ جَدّكَ يا حبيبي.. لكنهُ لم يتنبّأ بوَفاتِكَ في عِزِّ شَبابِكَ يا بُنيّ…

كيفَ صَدَقَتْ كلُّ تنبّؤاتِه..؟! وكيفَ لم يتنبّأ بالكارِثةِ التي حَلّتْ بنا..؟! أم أنهُ تنبّأ، دونَ أن يُعْلِمَنا..؟!

لا..لا…. لاأبي، ولا غيرُهُ يستطيعونَ ذلك.. فكما يقولُ المَثَل :

“الإنسان يعرف أين يولَد.. لكنهُ لايعرفُ أين يموت “…

يبقى عِلمُ الإنسانِ مَحدوداً، يا بُنيّ…….

وتمسَحُ مَريَمُ دموعَها، وتشهَقُ، وهيَ تنظرُ باتجاهِ مَقبَرَةِ الرجالِ المُغطّاةِ بأشجارِ السنديانِ، المُقابلةِ لبيتِها في القرية :

-الحمد لله.. الحمد لله… عيني سليمان…

-طبعاً، يا أمي.. الحمد لله.. فقد كانَ لأخي الغالي شأنٌ عظيم.. وقد اَحَبّهُ الناس.. وسيبقى الجميعُ يذكرونهُ بالخيرِ، والحبّ، مادامَتِ الدنيا… فلا تبكِ يا أمي…

سليمان لم يَمُت… مَن يزرع الحبّ، يحصُد الحُب…

ومَن يزرَعُ الخير، يحصدُ الخير…

فلتطمَئني يا أمي.. ابنُكِ مازالَ حَيّاً… وسيَبقى حَيّاً…

-الحمدُ لله…

تركتُ أمي تستريحُ قليلاً، قبلَ أن تُتابعَ سَردَ الأحداثِ والذكريات.. أسألُها، وهيَ تُجيب…

حاوَلتُ أن أجَفِّفَ الدموعَ من عَينيها المُحمَرّتَين.. خفتُ عليهِما.. فقد أُجرِيَتْ لكلِّ عَينٍ عمليةٌ جراحية، لتبديلِ العَدَسَتين، منذ سنواتٍ قليلة…

تلكَ العَينانِ الخضراوانِ الصافيتان، اللتانِ أورَثَتهما لأخي الغالي… لا أستطيعُ أن أراهُما دامِعَتَين… لكن… آه، يا أمي… فقد كانَ جَفافهما، الإستثناء… ألله يشرح صَدرك…

-أمي.. لماذا أسموكِ “مَريم سيليا “…؟!

-لا أعلَم.. لكن، ربما لسهولة لفظه.. ولأنه اسمٌ عربيّ أولاً.. لكنني (وتضحك ) كنت غاضبة على أبوَي لأنهما لم يسمّياني”فضّة”.. فالفضة قريبة من الذهَب، لكن،ماذا تعني”مريم سيليا “.؟!

ونضحكُ معاً.. وأنا سعيدة أنني استطعتُ تحويلَ إلى الذكريات الجميلة…

-أذكرُ من طفولتي، أنني كنتُ أشغِلُ نفسي عندما ينام أبي وأمي وقتَ القيلولة، بالعَبَثِ مع “تشي تشو ” والهِرّة.. كنا قد عَوّدناهما على أن نغذيهما بقِطع من اللحم، فصارا عندما يسمعان صوت شحذ السكّين، يتهيّآن للوجبة الدسمة.. لكنني كنتُ أعبث معهما، أحياناً، لأتسَلّى.. فأشحَذ السكين على الحَجَر، وأراقب انفعالهما.. حيث يرفع “تشي تشو ” أذنيه، ويقلبهما في كل الإتجاهات، ناظراً إليّ بعَينِ المُترَقّب.. بينما أسمعُ صوتَ الهِرّةِ “مْياو.. مْياو.. ” تمدّ لسانَها، وتتلمّظ.. تقترب مني.. وتحسّ ظهرَها فوق جلدِ ساقَيّ.. تستعطفني لأطعِمَها.. وكنتُ أضحَكُ، وأعاتبهما على الطمَع :

-للتوِّ أطعمناكما.. فلتذهبا الآن.. إنني – فقط – ألعب…

***

في صباح أحد الأيام، استيقظتُ – كالعادة – قبل أبَوَيّ.. خرجتُ إلى الدار، أستنشِقُ عبيرَ الورودِ التي زرعتها أمي.. زنابق، أغلبها (كالا ) زنبور الستّ.. أبيض، ومن الداخل أصفر.. ورياحين، وحَبَق، وقرنفل.. وكل أنواع وأشكال الزهور التي كانت تنسّقها باقاتٍ، باقات، بشكلٍ يُغري الناظرين…. الناعِم على الجوانب، وتدرّجات الألوان، والأشكال، وتناغمها في الباقات البديعة، تجعل الناس يتسابقون على شرائها في الأعياد والمآتم، وفي كل المناسبات…

تمَطّيتُ قليلاً، وأنا أعبّ من العبير المُنعِش، ورحتُ أصغي إلى هَديلِ الحَمام في الطاقات.. فقد كانت أمي تربّي طيور الحَمام، والدجاج، والبطّ، أيضاً.. وقد يصل عدد فراخها إلى سبعين صوصاً، أو أكثر.. تبيعها للناس، أيضاً.. وتبيعُ بَيضَها.. ونأكل من فراخها، ونُطعِمُ الزّوّار، و نهدي الأصدقاء والأقارب…

تكَدّرتُ، عندما سمعت ما يُشبه الأنين..

أصَختُ السمعَ بانتباه.. فعرفتُ أنه صوتٌ غير عاديّ.. صَوتُ حيوانٍ يتألّم…

تقدّمتُ أكثر.. ورحتُ أبحث عن مَصدر الصوت…

وعندما اقتربتُ من شاحنة أبي التي كان يركنها في طريقٍ ضيقةٍ مُغلَقةً من جانب، تفصلُ بين البيت القديم والغرف الأربع المُقابِلة، التي بَناها حَديثاً، وجعَلَ بينهما مَمرّاً يتسعُ للشاحنة، ومن بعدها، السيارة… كان ينقل البضاعة للزبائن في الشاحنة.. وعندما باعَها، اشترى السيارة، التي جعَلها لخِدمتنا.. يصطحبنا فيها كل يوم عطلة، في نزهةٍ طبيعيةٍ إلى نهر الروخاس…

تسَلّقتُ الشاحنة، بعد أن صرت متأكدة أن صوت أنين الحيوان يأتي منها.. وإذا بجَروٍ صغيرٍ مَقطوع الذيل، يلوذ بصندوق الشاحنة.. يئنُّ، ويتلوّى من الألم، والدماءُ تحتهُ وحَوله، ويبدو أن أحد قُساة القلوب قطَعَ ذيلَه..      

أخبرتُ أمي.. فأمَرَتني بالإبتعادِ عنه، خوفاً من أن يؤذيني، أو ينقل إليّ بعضَ الأمراض…

-الكَلب نَجاسة.. لا تلمسيه…

-أرجوكِ يا أمي.. أرجوكِ.. أتوَسّلُ إليكِ دَعيني أنقلهُ إلى الدار، وأداوي جِراحَه…

-قلتُ لكِ، لا تفعَلي يا مَريَم.. فقد يعضّك، أو يعديكِ بالأمراض، أو يملأ البيتَ بالبَراغيث…

-أرجوكِ يا أمي.. إنه يتألّم.. ثمّ.. ثمّ، هل هذا الصغير المتألِّم قادر على العَضّ..؟!

وأفلَحتُ أخيراً، بإقناعِ أمي… حَمَلتُ الجَروَ إلى الدار، ونظّفت أمي الشاحنة.. سَكَبتُ فوقه الماءَ بغزارة، وعلبة كاملة من الشامبو.. غسَلتُه جيداً، ونشّفتُه، ثمّ عملتُ لهُ – بمُساعَدَةِ أمي – ضمادةً، وضعناها فوق ذيله.. كنا نبدّلها كل يوم.. عليها كمية كبيرة من الدواء الأحمر، حتى شُفيَ الجَرو…

كنتُ أعِدّ له وجبة الحليب، وأسقيه إياها بالبيبرونة.. إلى أن صارَ يستطيع تناوُلَ الطعام بمُفرَدِه.. أحَمّمه، وألعَبُ معه.. أطلقتُ عليه اسم “تْشي تْشة “…

وقد بقيَ “تشي تشو ” وفيّاً لنا.. يحرس الدار.. ويعرّ كلما اقترَبَ أحدٌ من الباب.. ولا يسمحُ لإنسانٍ بالدخول، إلاّ إذا أمَرناهُ نحن بذلك.. وكثيراً ماكانَ إبن العَرَبِ يخافُ من ذلكَ الكلبِ الضخمِ الذي يهجمُ عليه، وينبحُ بشَراسة، عندما يقترب من باب دارنا.. فيخرج أحَدُنا ليقولَ له :

-تكَلّم بالعَرَبية.. تكَلّمْ بالعَرَبية..

عندها – فقط- كان “تشي تشو ” يَهدأ.. ويعود لينام أمام باب الدار، مُلقِياً برأسِهِ فوقَ قائمَتيهِ الأماميّتين…

فقد كانَ “تشي تشو ” قد ألِفَ لغتَنا.. وصارَ يربطُ سَماعَها، بحَنانِنا عليه.. فيمنحهُ ذلكَ شعوراً بالأمان.. وبقيَ كذلك، حتى بعد أن غادرتُ البيتَ مع زوجي وطِفلي، إلى الوطن.. ولا أعرفُ ما حَلّ بهِ بعدَ ذلك…

كثيراً ماكان “تشي تشو ” والهِرّة، يعربشان على الحائط، يخرمِشان بأظلافِهِما على الإسمَنت، وهما يسقطانِ خائبَين.. في محاولات يائسة للوصول إلى فِراخِ الحَمامِ في الطاقاتِ، التي طَيّنتها أمي في طابِقَينِ متوازيَين، تعيشُ فيها الحَمامات.. تتزاَج، وتبيض، وتفرِّخ…

أما الدجاج، فقد بَنَتْ لهُ أمي خُمّاً، سَقَفَتهُ بألواحٍ من التوتياء، وجَعَلَتْ أمامَهُ مُتّسَعاً كبيراً من الدار، تتجَوّلُ فيهِ الدجاجاتُ والديوكُ وفِراخُها بحُرّيةٍ، مُحاطةً بسِياجٍ منَ الشّبَكِ المعدنيّ.. كنتُ ألهو بفِراخها.. أداعِبُها.. تحميني أمي، وهيَ ترَدّ أمهاتها عني، قبل أن أرخي الصّوصَ، وأتناوَلُ البَيضَ من يديها، لأضعه في “الجْمَيِّم “، قبلَ أن تنقلَهُ أمي إلى البيت.. وتضعه في “القْليتي “، وتبيعه..بعد أن نأكل حاجَتنا منه، ونُطعِم الضيوف، ونهدي الأصدقاء…

كانت هناكَ شجرةُ توتٍ كبيرة، أمامَ بابِ الدار.. عُمرُها من عمر تواجُدِ أمي وأبي فيها..وكانَ في الدار، أيضاً، شجرةُ “بومَلي ” كبيرة الحجم، تحملُ عشرات الثمار الضخمة…

كانت هناك أشجارُ الصفصافِ، والكينا…

اختِلاطُنا بالأجانبِ كانَ قليلاً جداً… غالباً مايقتصِرُ على العلاقات الرسميةِ، كالمُناسَبات، والأعياد.. كان أقرَب جارٍ لنا اسمُهُ “دِيّاس “، وهيَ كِنيَتُه، وتعني “أيّام “.. كان “دِيّاس ” تاجراً.. كانوا يحبوننا ونحبهم كثيراً، لكنّ تعامُلنا بقيَ يقتصِرُ على المُناسَبات، فقط…

كنا نجمَعُ لهُ الحَلَزون.. كان يعملُ في حياكة السلال، وكنا كلما جمعنا له سَلّةً من الحَلَزون،، يديرُ لنا سَلّةً، كأنها ثمنُ الحلزون.. لا أعرفُ إن كانتِ السلالُ من الخيزران، أو ما يُشبهه..

أمي كانت تعملُ أطباقاً من قشّ القمح، وصَواني، و”جْمَيّمات ” و “قْليتات “، من مختلف الأشكالِ والأحجام.. تزيّنُ أطرافها بريشِ الطيور المُلوّنِ، الذي كانت تصبغهُ مع القشّ..

كنا نذهب إلى عند بعض العائلات العربية التي تسكنُ في مناطق تبعد عن الروخاس أكثر من أربعين كيلومتر.. مثل “بارغامينو ” و “خونين ” و “أنخليتا “.. في موسم الحصاد.. كانوا مُزارعين، يزرعون القمحَ والبقول والذرة، في مساحات واسعة من الأراضي، ويضعون عمّالاً يساعدونهم على ذلك…

تجلس أمي فوق مَكدس القمحِ الدائريّ، تنتقي السنابلَ الرفيعة، تقصّ رأسها، وتأخذ سوقَها، تنظّفها من أوراقها الجافة، وتجمعها حزمةً، حزمة.. تصطحبها معها إلى بيتناحيث تنقعها، لساعات، في وعاءٍ معدنيّ واسِع، تكون قد أذابَت فيه كميّةً من بودرة الألوان التي تحبها في الماء.. وعندما يصطبغ القشّ بالألوانِ المختلفة، تنشره في الهواءِ حتى يجفّ.. فتمسِكُ صنارتها المعدنية، وتأخذ قشّةً، تِلوَ أخرى، تحوكُها، وتزيّنها بالألوانِ التي تراها مناسبة… “تضحكُ أمي بأسى، وتَوقٍ إلى تلكَ الأيامِ الهارِبة… تهزّ رأسها، وتتابع ” :

-كمكنتُ أعذّبها عندما كانت تدير..!! تمسِكُ القشّةَ بأسنانِها، تنزعُ رأسَها الخشِنَ بها، لتبقى القشّةُ ناعِمة، وسَهلةَ الحياكة، فيبقى جزءٌ من رأسِ القشّةِ بين أسنانِها.. فأمدّ يَدي إلى فمِها، قائلةً :

-شيليها.. شيليها بقا… (وتضحك )…

كلّ أراضي مُحافظة بوينوس آيرس، ومنها منطقة الروخاس، وما حَولَها، عبارة عن سهول خضراء واسعة.. تكثرُ فيها أشجارُ الكينا، وأشجارُ الصفصافِ الكبيرة جداً، ذات الأغصان الخضراء الوارِفة… لم أرَ الجبالَ طوالَ المدّة التي عشتها في الأرجنتين.. المناطقُ الجبلية كانت بعيدة جداً.. في “سان خْوان ” و “مِندوسا ” و “كوردوبا ” وغيرها.. هناكَ توجَدُ مُرتفعات، وثلوج، ومناطق باردة.. أما عندنا في الروخاس، فكانت تسقط في الشتاء أمطارٌ غزيرة، أحياناً تملأ الرصيفَ الذي أمامَ بيتنا، حتى أننا نخشى دخولَها إلى البيوت.. وعندما نبرُد، كنا نضعُ فوقَ الفُرشِ التي ننامُ عليها، بعضاً من جلودِ الخِرافِ المُجَفّفة.. أبي كان يُصَلي فوق الجُلودِ، في الشتاء.. وفي الصيف، تكثرُ الرطوبة.. لكنّ الحرارةَ، بشكلٍ عام، مُعتدِلة هناك…

كان أبي يصنعُ دواءً لفقءِ الدمامِل،  خصوصاً تلك التي تستعصي على الشفاء بالأدوية الصناعية.. كان يمزجُ (شَمعَ النحلِ، مع دهنِ الدجاج.. ويرشّ فوقهُ البخورَ الناعِم.).. يذوّبُ  الدهنَ، والشمعَ، ويضعها فوق خِرقةٍ، ثمّ يرشّ  فوقها البخورَ الناعِم، ويُلصِقها بالدمّل، الذي كان ينفقئ بعد مدةٍ قصيرة…

مرةً، جاءَتهُ عائلةٌ أجنبية، تستنجد به، وتقول إن رب أسرتها كان يعاني من مشكلة نفسيةخطيرة، بدأت معه عقب انكسار مادي كبير.. كان ينزوي في بيته، ثم في غرفته، ولا يخرج أبداً، حتى انقطع، بعد مدة، عن التواصل مع أسرته.. كان يفكر، ويفكر.. ويصمت…ومع تطوّر المرض، صار يعتدي على أفراد أسرته بالضرب المُبرحِ والطائش.. كلما اقترب منه أحَدهم ليكلّمه، أو حتى دون أن يكلّمه…. استنجَدوا بأبي، لأنهم كانوا يعرفون أنهُ (فيه لله ) وأنّ لديهِ خِبرات كثيرة في كل شيء.. ليكتبَ لهم “كْتيبة “.. فرفضَ أبي، وقالَ لهم :

-هذا الأمر يحتاج إلى أكثر من تَميمة.. علينا أن نعالجَ الروحَ والجَسَد، بالعِلمِ والمعرفة.. نأخذ بالأسبابِ المادّية، ونتكلُ على الله…..

ونصَحَهم بالآتي :

-أولاً، حاوِلوا التقرّبَ منه بالتدريج..

صاحتِ الزوجة :

-كيف سنتقرّب منه..؟! والله كان يقضي علينا…

أجابَها أبي :

-لا.. لا.. إنه يعاني حزناً شديداً، وإحباطاً، وقِلّة ثقة بالآخرين، ويأساً من الحياة… وعلاجُ ذلك :

أولاً : أن تقتربوا منه، بالمَعروفِ، وبالكلامِ الحَسَنِ، الذي تتوَقعون أنه يعجبه.. لكن.. بالتدريج.. ليَنالَ ثقتَكم.. وكلما وثقَ بكم أكثر، طَوِّروا أساليبَ المُعالَجة.. أخرِجوهُ، ليتنزّهَ في الحَدائق، أو أيّ مكان طبيعيّ جَميل..ولا تتركوا له فرصةَ الشرودِ بهُمومِه.. إنما نَبِّهوهُ إلى الجَمالِ الموجودِ حَولَه :

-شوف.. ما أجمَلَ هذه الزهرة..!! وما أجمَلَ هذه الأعشاب الطريّة.. !! اسمَعْ زقزقات العصافير، وطَنينَ النحلِ المِعطاء.. انصُتْ إلى صوتِ الجَداوِل،ِ، وإلى حَفيفِ أوراقِ الشجرِ الناعِم… إلخ

احرصوا على عدم إجباره بالطعام.. فقط، زيّنوا لهُ الصنفَ الذي يحبه، وقدّموه له، وأنتم مُبتسِمين.. شَجّعوه، بالمَعروف.. تعامَلوا معهُ بإنسانية.. واتكلوا على اللهِ تعالى، قبلَ كلّ شيء.. فهو وحده الشافي..

وعندما شفيَ هذا الرجل، جاء إلى أبي، حامِلاً ديكاً أبيضَ مُزركشاً، من نوع (باتاراس )…

***

لم يكنْ أهلي يسمحون لي بالإختلاط بالأجانب.. وأولاد العرب كانوا بعيدين.. إلاّ بعض العائلات، مثل عائلة بيت (أحمد عبد الله ) التي كانت تسكن في الروخاس.. زوجته امرأة أجنبية طيبة العِشرة، كنا نحبهم وكانوا يحبوننا.. كانت ابنتُهما “ديليا ” صديقتي.. كنا نلعب مع بعضنا، أحياناً.. وكنا زميلتين في المدرسة.. وقد أوصَيتُها بأهلي، عندما سافرتُ مع زوجي وطِفلي إلى الوطن…

فبعدَ سنتين وسبعة أشهر من مَجيء عادِل.. جاءتنا رسالةٌ تخبرُنا أنّ عمي (الشيخ مَجيد ) قد أصيبَ بالشّلَل…

جُنّ جنونُنا…

ورحنا نكثّفُ الرسائلَ، ونتتبّعُ الأخبارَ من كلِّ مَصدَر.. وكانت جميعُها أخباراً سيّئة…

ولم نعرف الهناء، منذ أن سمعنا بمرضه… صارت العائلة في حالة لا تحسد عليها من القلق والتوتر والترقب، والتفكير بما على كل واحد من أفرادها أن يفعله إزاء ذلك الحدث الأليم…

فعادل، هو الأكبر سنا من أبنائه الذكور.. وأبي، أخوه الوحيد… لكنهما على بعد آلاف الأميال من الوطن…

كان لابد من السفر.. لكن، كيف..؟! وكم من الترتيبات يحتاج ذلك..؟! أو، بالأحرى.. هل كان ذلك ممكنا..؟

كنا، خلال هذه الفترة الحرجة، نكثف إرسال المال واللباس والحاجات اللازمة لبيت عمي…

لكن الأمر كان قد وصل أقصاه، بعد وصول رسالة تخبرنا بوفاة عمي، بعد تسعة أشهر من مرضه.. يوم السبت، في السابع عشر من رمضان عام 1372هجرية – الموافق للثلاثين من أيار عام 1953م…

صار الأمر يحتم على عادل العودة إلى الوطن.. وكان المنطق يحتم عليّ أيضاً، أن أرافقه…

إذاً، كيف أبقى، ولنا ولدٌ تجاوز العام بقليل، وبطني يكبر ويتسع بحَمل ثانٍ..؟!

كيف يتركني..؟!

وكيف أترك أنا أهلي..؟! أبي، وأمي العجوزين، وأنا أملهما الوحيد في هذه الحياة، وفي هذه الغربة الموحشة..؟! (أمران.. أحلاهما مُرّ..).. لكن أمي شجعتني على السفر :

-اتبعي زوجك يا مريم.. كوني معه، كما كان معكِ، يا ابنتي…

كانت أمي تحكي لي عن ذكرياتها في الوطن، وعن عَذاباتهم من الفقر والجوعِ والمرَض والحَرب.. مثلاً، أنّ زوجَها، أبا إخوتي، كان يمرضُ كثيراً، وأنّ أهلَهُ أهمَلوه، وهي وحدها كانت تعتني بهِ، وبأبنائهما.. وبعد وفاتِه، ضَمّتْ أبناءها إلى صَدرها، وعاهَدَت نفسَها على حمايتهم ورعايتهم، دون أن تتركَهم يحتاجونَ إلى أحد، وكانت – أثناءَ الثورة – تهربُ بهم إلى الحقولِ والوديان، أو إلى القُرى المُجاوِرة، التي قد تكونُ أكثر أمناً، مثل كلّ الناس الذين كانوا يهربون من القصفِ والموتِ وحَريق قُراهم، ومن مُداهَمات القوّات الإستعماريةِ المُستمرّة.. كانت أمي تحملُ فَرشةً مُهترِئةً على رأسِها، وتضعُ فوقها سَريراً يرقدُ فيهِ ابنُها الأعمى.. يمشي أطفالُها أمامَها، والدوابّ أمامَهم، تخبّؤهم في الوديانِ، تحت جَفناتِ الآسِ أو السنديان، إلى أن ينتهي القصفُ، فيعودوا أدراجَهم إلى قُراهم التي قد تكونُ مَحروقةً عن بِكْرَةِ أبيها.. وأنّ النساءَ الحَوامِلَ كُنّ يَلِدنَ حيثما يفاجؤهنّ المَخاض، في الوديان، أو في بعضِ القُرى، فمثلاً، إبن عمتي (عبد الله ) وَلدتهُ أمهُ في (شْرَيجِس )…

ومرّةً، تعبتْ أمي إلى درجة أنها أنزلت طفلها الأعمى، الذي كانت تحمله في سريره فوق الفرشة، على رأسِها.. خَبّأتهُ في جَفنةٍ، وتابَعَتِ السّيرَ مُسرِعةً مع بقيةِ أبنائها، والدوابّ، عبرَ الأحراش.. إلى أن وَجَدَتْ مكاناً، يُمكنُ أن يكون آمِناً.. خبّأتهم في تلكَ الجَفنة، وطلَبَتْ منهم عَدَمَ الحِراك، إلى أن تحضر.. وعادَت إلى الصغيرِ الذي كانَ يصرخُ مَرعوباً :

-أمي ي ي ي … لا تتركيني يا أمي.. أخافُ أن تأكلني الضّبْعَة…

-لن أترُكَكَ يا صَغيري.. لن أتركَكَ يا أمي… ها أنا قد أتيتُ لأنقلَكَ إلى عندِ إخوَتِك…

-أمي.. ماهذهِ العَصافيرُ التي تزقزقُ بشكلٍ مُرعِب..؟! أنا أخافُ منها أيضاً يا أمي…

فتحمدُ اللهَ على أنّ طفلَها أعمى، ولا يعرفُ أنها ليستْ عَصافيراً، إنما هيَ أصواتُ أزيزِ الرّصاصِ، الذي يمرّ فوقَ رؤوسِهم…

وأنها – مَرّةً – استغَلّتْ هدوءَ القَصْفِ، فجَمَعَتْ أطفالَها حَولَها، وفرَشَتْ أمامهم قطعةَ قِماشٍ، ورغيفاً من خبز الذرة، أو الشعير، أو الشوفان، وفوقَهُ قطعة كبيرة من الزبدة :

-فلتأكُلوا بسرعةٍ يا أمي، قبل أن تعودَ الغارَة…

نزلَ الجميعُ بالطعامِ، بشهيّةٍ لا تقاوَم… وماهيَ إلاّ لحظات، حتى سمعوا دويّ طائرةٍ كانت تمرّ فوق رؤوسِهم، على عُلوٍّ منخفضٍ جداً، تحتَ مُستوى قِمّةِ الجَبَل… تجَمّعَ أطفالُها بسُرعةِ البَرقِ، تحتَ جَناحِ أمهم في الجَفنة، ليروا كيف تنزلُ من الطائرةِ زَخّةٌ من الرصاصِ، فوقَ الطعامِ، لتعجنَ الخبزَ بالزبدةِ، والقماشِ والترابِ والحَصى…

عافَ الجميعُ الطعام… (الفزَع، بيطيّر الوَجَع ).. ويُطَيّرُ الجوعَ، أيضاً… لكنّ أمي حَمدتِ اللهَ كثيراً على نَجاتِها ونجاةِ أطفالِها…

***

حَكوا لي، أيضاً، عن زوجةِ أبي الأولى، وعن طِفِها.. فكثيراً ماكانَ الصغيرُ الحافي، والهزيل، يأتي إلى أمهِ العاثِرة، ويطلبُ منها – كَشَحّاذ – بعضَ حَبّاتٍ من الحمّص، ليمضَغَها بأسنانهِ الطريّةِ، عَلّهُ يُسكِت ذلك الجوعَ الكافِر.. لكنّ الأمّ كانت تعطيهِ بعضَ الحَبات القليلة، مرّةً كلّ يومٍ، فقط.. وتمنع عنه الإسرافَ في ذلك، خشيةَ أن تنفذّ المؤونةُ القليلةُ في وقتٍ قصير، فلا يتبقّى عندها ما تبذرهُ في المَوسمِ القادِم…. يبكي الصغيرُ، ويستعطفُ أمه، التي لم يكنْ هَزيلاً، ولا جائعاً أكثرَ منها.. فتضربه ليسكت…

لكنها – مرّة – لاحَظت أنه لايقوى على النهوضِ من الفِراش، فاستدعَت لهُ أحدَ الشيوخ..إلاّ أنّ الرّقى لم تفِدِ الصبيّ في شيء.. لم يلبثْ أن انقطَع عن الكلامِ والحَرَكة.. بقيتْ عيناهُ جاحِظتانِ، تبدوانِ أكبرَ من أيّ جزءٍ من جَسَدِه.. لم يستجِبْ لإغراءاتِ أمهِ بكَمْشَةٍ من حَباتِ الحمّص، التي كان يحلمُ بها… مَرّرَتها أمامَ عينيهِ، دونَ أن يرفَّ لهُ جَفن.. قرّبَتها من فمهِ، دون أن تتحرّكَ شَفتاه.. حاوَلتْ أن تفتحَ لهُ فمَهُ بالقوّة، لتُدخِلَ بعضَها فيهِ، بعدَ أن تكونَ قد مَضَغتها قليلاً، لتسهّلَ عليهِ ابتلاعها، عَلّ لِسانَهُ يتعرّفُ عليها، فيلتهِمُها بسرعةٍ تكفلُ لهُ العَودةَ إلى الحياة.. لكن.. دون جَدوى….. صَرَختْ بهِ :

-سالِم….. وَلَدي………..!!

لكنهُ لَوى عُنقَهُ، كأنهُ (صوصٌ ) أصابَتهُ (الوَجْعَة )…

صَرَخَتْ أكثر :

-سالِم.. سالِم…… طِفلي……………!!

وجاءَ الناسُ على صُراخِها… أغلقَتْ لهُ سِلفتُها عَينيه :

-ألله يرحمه، يا أم سالِم.. ألله يعوِّض عليكِ….

-لا.. لا.. لاتقوليها يا مجنونة.. سالِم.. سالِم.. قُمْ يا وَلَدي، قًم يا حبيبي..مَن قالَ لكَ أنّ الحمّصَ قليل..؟!! مَن قالَ لكَ أنّ (السَّدّون )فارِغ..؟؟!! الحمّص بحر يا سالِم… طِفلي.. حبيبي.. ألا تصدّقني..؟! أنا أمكَ يا سالِم.. فكيفَ أمنعُ عنكَ أكلَ الحمّص..؟؟!!

وهُرِعتْ إلى (السّدّون ) لتنهالَ عليهِ ضَرباً وتحطيماً، بكِلتا يَديها، وقَدَمَيها.. لتنتثرَ عَشَراتُ الحَبّاتِ فوقَ الأرضِ التُرابية :

-انظرْ.. انظر… يلعن أبو الحمّص…

ولم تلبثْ أم سالِم – بعدَ وَفاةِ صغيرِها – إلاّ عدّةَ أشهر، حتى لحِقتْ به….

***

وعن أمي، يومَ طَلَبَتْ من زوجةِ عمي “أمّ عادِل ” أن تعيرَها “بَشْلوقَة ” إن كان عندها، لأنّ قدَميها كانتا قد تفسّختا من المَشي حافية، فأعارَتها “بَشْلوقةً ” قديمةً لعمّي “الشيخ مَجيد ” فانتعَلَتها، ومَشتْ إلى الحقل.. وماهي إلاّ لحظات، حتى سقطت، وانكَسَرَتْ رِجلُها.. فقد كانتِ “البشلوقةُ ” واسعةً جداً.. ممّا أوقَعَها…..

***

كان أبي قد وَسّعَ تجارَته، إلى أن صار عندنا مَتجَرٌ كبيرٌ، نبيع فيه كلّ شيء، ابتداءً من البالي، الذي كان أبي يُحضِره لأمي بأكياسٍ كبيرة.. فتفرزهُ وتغسله، وتجفّفه، وتكويه، وتعلّقه، بمُساعدة أبي، على مشجبٍ أعَدّها أبي، في المَتجَر.. فيُقبِلُ الناسُ على شرائهِ، حتى أكثر من الجديد، الذي خصّصت له الجهة المُقابلةمن المَتجر…

هناك، أيضاً، مُتّسَعٌ لأنواع وأشكال متعددة من الأحذية القديمة والحديثة، للنساء والرجال والأطفال.. وركنٌ آخر للأدوات المنزلية، وتجهيز العرائس، وفَرش بيت الزوجية من كلّ مايتطلّبه ذلك من حاجيّات.. خزائن، وفرش، وأسِرّة، وأغطية، وأوانٍ للمَطبخ، وكل مايخطر على البال…

مَرّة، جاءنا خطيبان، ليُجهّزا بيت الزوجية.. وبعد أن اشترَيا كلّ حاجاتهما، وقفا يتساءلان – قبلَ أن يصطحبهما أبي في شاحنته الضخمة، إلى دارِهما – : هل نسيا شيئاً..؟! فسارَعتُ، أنا الصغيرة، إلى تكيرهما بشيءٍ مُهِم :

-نسيتما سَريرَ الطفل…

ممّا أثارَ ضحكهما، وضحِكَ الجميع…

لكنّ الأمرَ لم يطُل بهما سوى عدّة أشهُر، عادا بعدها إلى مَتجرنا، ليسألا عن تلكَ الطفلة الذكية، التي – لو استمَعا لنصيحتِها – لما عادا الآن…

اكتسَبَ أبي وأمي ثقةَ ومَحبةَ الجميع، من جيران، وأقارب، ومَعارف، أجانب، وعرَب…

كان جيراننا، ومعارفنا الأجانب، يُطلِقونَ على أمي اسم (سانتا ) أيّ (القدّيسَة )، لحُسنِ تعامَلها معهم.. وقد أخبرَنا أبي أنها عندما سقطت عن الكرسيّ الهَزّازِ، دون حِراك.. ظنها ماتت.. حاوَلَ إنهاضَها، لكنه لم يستطِع.. فخرَجَ إلى الشارع، وإذا بشابٍّ يركب “موتوسيكلاً “.. فناداهُ طالِباً مُساعَدَتهُ، ففعَل.. وأسعفوها إلى المشفى، حيثُ أعلنَ الطبيبُ أنهُ الفالِج.. بقيَت في ذلكَ المَشفى عدة أيام، قبل أن يُخرِجَها أبي، ليعتني بها وحدَه في البيت.. يحَمّمُها، ويجفّف لها جَسَدَها، يطعِمها ويسقيها بيدَيه، ويغيّرُ لها ثيابَها المُلوّثة.. يُسرِّحُ لها شَعرَها، يمسَحُ على وَجهها، يقبّلها من رأسِها، راجياً إياها – بكلِّ ما أوتيَ من قوّةِ الحبّ، والحَنان : – لاتتركيني وَحيداً، يا سَكينة… أرجوكِ يا سَكينة… فأنا غيرُ قادِرٍ على العَيشِ بَعدَكِ….!!

لكنها ترَكتهُ، بعدَ عامٍ كامِلٍ من المرَض.. صباحَ أحدِ الأيام.. وغادَرَتْ هذهِ الدنيا، غيرَ آسِفةٍ إلاّ على رؤيةِ أبنائا وبَناتِها…..

اجتَمَعَ الجيرانُ، الذين كانوا يحاولون مُساعدةَ العجوزِ على العِنايةِ بزوجتِهِ المَريضة… وكثيراً ماكانوا يُلِحّونَ عليهِ بالرّجاءِ أن يسمَحَ لهم بغسيلِ ثيابِها.. وعندما يسمَحُ لهم، نتيجةَ إعيائهِ الشديد، ينقلون الثيابَ إلى بيوتِهم، ليغسِلوها.. لكنهم لا ينسونَ أن يتركوا قطعةً من ثيابِ (سانتا سَكينة ) غيرَ مَغسولة، تفوحُ منها رائحةُ عَرَقِها، برَكةً في بيوتِهم.. ذِكرى إنسانةٍ جميلةٍ، حَنونة، دافئة، مؤمِنة.. مَنَحَتهمُ الأمانَ والسلام، عَشَرات السنين.. مُحاوِلينَ أن يُطيلوا بَقاءَها معهم أطوَلَ مدّةٍ مُمكِنة………

اجتمَعَ الجيرانُ والأقاربُ والمَعارِف، من كلِّ أصقاعِ الأرجنتين، وبعضِ دوَلِ أمريكا اللاتينية، للمُشارَكةِ بتشييعِ سَكينة، أمَ محمّد.. ويدفنوها في مَقبَرةِ الرّوخاس، في قبرٍ رُخاميٍّ، يرتفعُ عن الأرضِ عِدّةَ سنتيمترات، لهُ شاهِدةٌ نقَشَ عليها ابنُ أخيها “حَكيم “، الذي كان يعمَل بالنقشِ على الرّخام، تاريخَ ومَكانَ وِلادَتِها، وتاريخَ ومَكانَ وَفاتِها، وسورَةَ الفاتِحَةِ، وأبياتاً من الشّعرِ، تؤرّخُ حَياتَها.. تُظَلِّلُ القبرَ شجَرةُ توتٍ كبيرةٌ، تتلاقى أغصانُها بأغصانِ أشجارِ الكينا، والزنزلخت، والصفصافِ، المُتوَزِّعةِ في مساحاتِ تلكَ المَقبَرَةِ المُسَوّرَةِ بحائطٍ مُرتفِعٍ، تعلوهُ قِطَعٌ من حُطامِ الزجاج…….

كانَ ذلكَ في خريفِ عام 1971م.. حينَ تلَقّتْ مَريمُ الخبَرَ، في رسالةٍ ، ناوَلَتها إياها بَتولُ – فَرِحَةً – لأنّ أمّها تلقّتْ رسالةً من الأرجنتين، ظَنّتها تحملُ أخباراً طيّبة………………..

***

تذكّرتُ عندما حَدَثتِ الهَزّةُ الأرضيّةُ في “سان خْوان ” وانهَدَمَتْ عِدّةُ بيوتٍ، ومنها بيتُ ابنةِ خالي “سامية “.. وكيفَ خافَ الأولادُ، وتمَلّكَهُمُ الرّعبُ، وصاروا ينامونَ في العَراء..

وعندما هَبّتْ عاصفةٌ قويّةٌ “إعصار ” طَيّرَتْ أسقُفَ التوتياء، وقطَعَت رأسَ رجُلٍ كان يمشي في الشارِع..

ويومَ رَكِبَ ابنُ “أحمد ابراهيم ” على بَغلتِهِ، بعدَ أن ناوَلتهُ أمهُ شَطيرَةً من الزبدة، وطلبتْ منه أن يذهَبَ ليَجمعَ البقرَ الذي كانوا يتركونهُ يرعى بحُريةٍ في السهولِ الواسِعة.. فرَبَطَ الحَبلَ الذي يُحيطُ بهِ رقبةَ البَغلةِ، على خَصرِه، وراحَ يدهنُ الزبدةَ على الخبزِ، والبَغلَةُ تسيرُ بهِ على طريقٍ ترابيةٍ طويلةٍ، ومُستقيمة، تحيطُ بها من الجانبينِ، أسلاكٌ شائكةٌ، تحمي حقولَ القمحِ، والذرَةِ، المُتراميةِ الأطراف… وعندما أجفِلَتِ البَغلَةُ، سَقَطَ الصبيُّ، ابن الثالثة عشرة، عن ظهرِها، فراحَتْ تجرّهُ، وهوَ مُعَلّقٌ بالحَبْلِ في رقبَتِها.. وكلّما صرَخَ، ازدادَتْ سُرعَتُها، حتى وَصَلَ إلى أهلِهِ مُمَزّقاً، دامياً، مُفارِقاً الحياة.. نتيجةَ دَعسَةٍ من حافِرِ البَغلةِ، ونتيجةَ جَرِّهِ فوقَ الأسلاكِ الشائكةِ، أمامَ أعيُنِ أهلِهِ، وبقيّةِ المُزارِعين… وكيف سَقطتْ أمهُ مَغشيّاً عليها… وكيفَ تناقَلَ الناسُ، أنهُ وُلِدَ ثانيةً، عند جيرانٍ لهم، عَرَب أيضاً، وعَلامةُ دَعسةِ حافِرِ البَغلةِ، ماتزالُ باديةً على صدغِه، وأنهُ – عندما كبرَ قليلاً – وصارَ قادراً على المَشيِ بمُفرَدِه، اتّجَهَ، أوّلَ ما اتجه، إلى بيتِ أهلِه.. وعندما صارَ يحكي، حَكى لهم قصّةَ سقوطهِ عن ظهرِ البَغلة، وتعرّفَ على أهلِهِ وإخوتهِ، بالأسماء.. وتأكّدَ الناسُ أنهُ (بيحدّ بجيله ) حين صارَ يحكي أسراراً بينهُ وبينَ إخوتِه، لا يُمكنُ لأحدٍ أن يعرِفها غيرَهم…

***

أتذكّرُ، كم ضحكوا عليّ، في بيت خالي، عندما كنا نزورهم في العاصِمة، وبعدَ أن بقينا عندهم عدة أيام، حانَ وقت عَودتنا إلى بيتِنا في الروخاس.. فقالت أمي لزوجةِ خالي :

-أمانة، يا زوجة أخي، خذي أبناءكِ، وزورونا، أيضاً.. ترينَ، كم فرِحَ الصغارُ ببعضِهم..!!

ومنطقتنا جميلة، وحلوة.. وسيفرحون أكثر..

أجابَتها زوجةُ خالي :

-إن شاء الله، يا ابنةَ عمي…

فصاحَ الأطفالُ بصوتٍ واحد، مُشجِّعينَ، وداعِمينَ للفِكرة… لكنّ زوجةَ خالي هَدّأتهم، قائلةً :

-لكنّ بيتهم ضَيّق، ولا تكفي الأسِرّةُ لتناموا جميعاً..

فقلتُ لها، مُتحَمِّسةً :

-لا عليكِ، يا زوجة خالي.. أنا، وابن خالي، ننامُ فوقَ بعضِنا…

خجلتُ كثيراً، عندما ضحِكوا على بَراءَتي.. وظلّوا يُذكّروني بها…

***

أدخَلوني المدرسةَ الأجنبية.. لكنني لم أطِقِ الإستمرارَ فيها، سوى أربع سنوات دِراسية…

كنتُ راغبةً – فقط – بتعَلّمِ اللغةِ العربيةِ، قراءةً، وكِتابة.. وهذا لم يحصل إلاّ في البيت…

كنتُ أصطفُّ مع الطلاّب، والطالِبات، في آخرِ الصفّ، لأنني كنتُ أطَوَلهم قامَةً.. ممّا كانَ يُخجِلني…

كنتُ أشعرُ بينهم بالغُربة.. فنحن لم نعتَدْ على إقامةِ علاقاتِ صَداقةٍ مَتينةً مع الأجانب.. بل، كانت زياراتُنا المُتبادَلة تقتصِرُ على المُناسَبات الرسمية.. الأعياد.. والمآتم.. إلخ

فخرَجتُ من المدرسة.. لكنني كنتُ أرغبُ كثيراً بقراءةِ القرآنِ الكريم.. السبيل الأهمّ لأتعلّمَ القراءةَ والكتابةَ بلغةِ أهليَ الأمّ، التي كانوا يشجّعونني على التمَسّكِ بها.. وكانَ يُغريني صتُ أبي وهوَ يرتِّلُ آياتِ القرآنِ الكريمِ، بخشوعٍ تامٍّ، يومياً.. خصوصاً، في شهرِ رمَضان المُبارَك.. قُبَيلَ الإفطارِ، وفي السحور، وقُبَيلَ صَلَواتِهِ الخمس، أو بعدَها.. كنتُ أشعرُ بالسّموّ في عالَمِ الروح، فأتشجّعُ أكثر لأتقِنَ لغتي، كما يُتقِنها أهلي… وكلما كان يزورنا أحدُ أبناءِ العَرَبِ، كنتُ أتعَلّقُ بثيابهِ، راجيةً إياه :

-أرجوكَ يا عَمّي.. أرجوكَ، لاتذهبْ قبلَ أن تُعَلِّمَني آيةً منَ القرآن..

ولم يكنْ أحدٌ يترَدّدُ في تلبيةِ طلَبي..

قرأتُ أحاديثَ الرسول (ص ) وسِيَرَ الأنبياء (ع ).. وقرأتُ كثيراً في (نَهْج البَلاغة )..

قرأتُ (كَليلة ودمنة ) باللغةِ العربية.. وقرأتُ (بَدائع الزهور، في عَجائبِ الدّهور ).. وغيرَها….

***

كنتُ أعدّ أيامَ الأسبوعِ، وأترقّبُ حلولَ العطلة الأسبوعيةِ، يومَ الأحد.. حيثُ كان أبي يصطحبنا في السيارة، التي يقودها بسُرعةٍ جُنونيةِ، إلى نهرِ الرّوخاس..

أذكُرُ، مَرّةً ، أنّ السيارةَ تزحلَقَتْ على الإسفلتِ، ودارَت حَولَ نفسِها، قبلَ أن تتوقّفَ بقدرةِ قادِر.. فصاحتْ أمي مَرعوبةً :

-ياخضر.. ياخضر دَخيلك..!!

وارتَمَتْ على المقعد، مُغمضةَ العينين، شاحِبةَ الوجه، بلا حِراك.. فرَبَتتُ على وجهها وكتِفها، وأنا أضحكُ، ساخِرَةً :

-قومي، بقا.. قومي.. لن تموتي الآن….

كان أبي يتركنا نصطادُ السمَكَ، بصناراتٍ وطُعوم.. فنتبارى أنا وأمي، مَن تستطيعُ اصطيادَ أكبر، وأكثر عدد من الأسماك… نضعها في سِلالٍ من القَشّ.. ويذهبُ هوَ إلى الغابةِ القريبة، المليئةِ بأشجارِ الكينا والصفصاف، حامِلاً بندقيّة الصيد.. يصطاد الطيورَ، خصوصاً البطّ البَرّي، الذي يكثرُ هناك.. وكلما اصطادَ بَطّةً، يناولنا إياها، لننتفَ ريشَها، وننظفها في مياهِ النهر.. ويوقِدُ هوَ الحَطَبَ، حتى يصبحَ جَمراً.. لنتناول وَجبةً أسبوعيةً دَسمة، ونطعم “تشي تشو “..ولا ننسى نصيبَ الهِرّة…

كان أبي يتأمّلنا بأسى، ونحن نتناوَلُ الغداءَ بكثيرٍ من المَرَحِ والسعادة..وهو يقول :

-الآن، نحن الثلاثة، مثل أركان “الدّسْت ” إذا مالَ أحَدُنا، اندَلَقَ “الدّسْت ” وانسَكَبَتْ مُحتوَياتُه…

ويبدأ بإنشادِ الأشعارِ الحزينةِ، بصَوتِهِ الحنون، شبهِ الباكي…

***

مَرّةً، جاءَ شخصٌ، واشترى من مَحَلِنا (موبيليا )، ومن ضِمنِها خِزانةٌ، على بابِها الأوسَطِ من الخارِج، مرآةٌ صَقيلة…

حَمّلوا البضاعةَ في الشاحِنة، وقادَها أبي.. وعندما وَصَلوا، أوقفوها، وأنزَلوا البضاعة..

اجتمَعَ الأهلُوالجيرانُ ليستمتعوا بمنظرِ البضاعةِ الجديدة.. ناوَلَ الزبونُ أبي حِسابَهُ المُتّفق عليه سَلَفاً.. وقبلَ أن يَصعَدَ خلفَ المِقوَد، ليعودَ إلى عمله، سمعَ صُراخاً، وأصواتاً تتعالى.. وصوتَ تكَسُّرِ زجاجٍ، وهَرَجٍ ومَرَج.. التفتَ باضطراب، وإذا بالخِزانةِ قد أصبحتْ في خبَرِ كانَ.. كان من ضِمنِ المُتفرّجين المُعجَبينَ بالخِزانة، ثورٌ ضخمٌ، رأى ثوراً آخرَ في المرآة، يستفذّهُ بتقليدِ حَرَكاتِه، فانقضَّ عليهِ ليحطّمَهُ بقرنيهِ الصّلدَين.. وزادَت من ثورتهِ، أصواتُ الهَلَعِ من الجمهورِ الهائجِ، أيضاً.. فأخذَ يُحَطّمُ كلّ مايقدرُ عليهِمما تبقّى من الخزانة، التي كانت ماتزالُ في باحَةِ الدار…

نزَلَ أبي.. وتقاسَمَ الخسارةَ مع الزبون.. ثم صَعَدَ خلفَ المِقوَدِ، وأطلَقَ العِنانَ لشاحنتهِ التي كان يسحَقُ هُمومَهُ تحتَ عَجلاتِها المُسرِعة…

***

كانت أمي تعلّمني الخياطةَ والتطريزَ، وشغلَ الكروشيه.. وأرسَلَتني لأستزيدَ من هذه المعلومات، إلى عند مُعَلّمَةٍ من “بوليفيا ” سوداء البشَرة..

وَعيتُ على الدنيا، وأنا أعرف أن أبي مريضٌ بالقرحة المَعِدية، التي استعصت على طبيب العائلة “خوان فيرمال ” وكل الأطباء الذين يعرفهم.. ولم يترك دواءً يصِفونهُ لهُ، إلاّ وأخذهُ بدِقة.. لكن.. دون جَدوى…

كان شيئاً طبيعياً بالنسبة لنا وله، أن يقومَ عنالطعام، ليضعَ أصابعه في فمه، ويتقيّأ عدة مرات.. وأحياناً كان القيءُ مُدَمّى.. كان يبقى شاحباً، قلِقاً، يائساً من الشفاء، حتى اعتبَرَ أن ذلكَ قَدَرُه، وأنّ عليهِ أن يتقبّله ويتحَمله.. لأنه لم يعُد يرى جدوى من العِلاج….

لكن.. وفي يومٍ من الأيام،جاءتْ عائلةٌ تحملُ عَفشَ بيتِها كامِلاً في شاحنة، لتُنزِلَها في بيتٍ استأجرَته، على بُعدِ حوالي شارِعَينِ من بيتِنا.. وعند سؤالنا عن هذه العائلة، قيلَ لنا أنهما أخَوانِ طبيبانِ من البرازيل، جاءا هاربَينِ من مُلاحَقةٍ سياسيةٍ، أو، ربما كانا مَكسورَينِ مادياً..

اقترَحَت أمي على أبي أن يذهَبَ إلى أحَدِ هذينِ الطبيبين، ويُجَرّب عِلاجَه.. لكنه أجابَها بيأس :

-لا.. لا..خَلَص.. جَرّبتُ كلّ أنواعِ العِلاج، وكلّ الأطباء، ولم أشفَ.. فهل تحلمينَ أن عِلاجَ هذا الطبيب مُختلِف..؟!

قالت له :

-جَرِّب.. لم يخلق اللهُ داءً، إلاّ خلَقَ لهُ دَواء….

زارَ الطبيب، في مُحاوَلةٍ أخيرةٍ للشفاء، وشرَحَ لهُ أنهُ لايمكن أن تدخل فمه لقمةٌ إلاّ ويتقيّأها..

سألهُ الطبيب :

-ماذا كنتَ تأكلُ في وطنِكَ الأمّ، وكانت مَعِدتكَ تتقبّلهُ وتهضمُهُ بسهولة..؟!

-كنتُ آكلُ “البُرغل ” و “المْتَبّلة ” و……..

-سأعطيكَ دواءً، وأصِفُ لكَ خطّةً عِلاجية، إن اتبعتَها بدِقة، سوف تعودُ وتستطيع تناوُل “البيرغل ” و “المتابلي “.. وكل ماتحب…

-يا أهل المُروءة..!! حسبي الله ونعم الوكيل…

ومن ضمنِ العِلاج، كان قد وَصَف له تناوُلَ خبزالنّخالة، وخبز الشعير، والشوفان، والحبوب الكامِلة…

وشيئاً فشيئاً، استعادَ عافيتهُ كاملةً، وصارَ يأكلُ كلّ مايريد، بدون آلامٍ أو إقياء..وعادَ إليهِ التفاؤلُ، ربما أكثرَ من الأول…

ولم يعرف كيف يُكافئُ ذلكالطبيب الحاذق..

وكان قد نذرَ أن يذبحَ ثوراً كبيراً، يوزّعُهُ مع زكاتِهِ على الفقراء والمساكين والمُحتاجين، إذا مَنّ اللهُ عليهِ بالشفاء.. وقد وَفّى بنذرهِ، وزادَ من صَلواتِهِ، شكراً للهِ تعالى على نِعمةِ العافية..

***

(كورونيل ميليان ) هذا هو اسمُ الشارعِ الذي فيهِ بيتُنا..الرقم (165 )…

مَرّةً، رَنّ الجَرس.. قال أبي :

-افتحي البابَ، يا مَرْيَم…

وإذا بشَيخٍ لهُ لِحيةٌ شقراء مَهيبة.. حَيّاني بالعربية :

-ألله يعطيكِ العافية يا ابنتي..

أنتِ ابنة عَرَب..

هل أنتِ ابنة الشيخ “صالح سليمان “..؟!

-نعم.. تفضّل..

ناداني أبي :

-مَن هذا يا مريم..؟!

-شَحّاذ.. شَحّذ، يا أبي…

نهَض أبي، وتقدّمَ من الشيخِ يسأله :

-السلامُ عليكم، يا سيدنا..

-وعليكم السلام ورحمةُ اللهِ وبرَكاتُه.. هل هذا بيت الشيخ “صالح سليمان “..؟!

-نعم.. لكن، مَن أنتَ ياشيخ..؟!

-هل أنتَ الشيخ “صالح سليمان “..؟!

-نعم.. تفضّل..

-أنتَ الذي تُصَلّي كثيراً..؟!

-مَن قالَ لكَ هذا..؟! ثمّ، مَن أنتَ يا شيخ..؟!

أنا مَبعوثٌ إلى عندكَ يا شيخ.. أنا قاصد ألله وقاصدك.. جئتُ لأموتَ عندك..

-بعدَ عُمرٍ طويلٍ، يا رَجُل.. مَن أنت..؟! وماهيَ قصّتُك..؟!

-إسمي “شعبان علي “.. لي ابنُ أخٍ، رَبيتُهُ كأنهُ ابني.. فأنا غير متزوج.. وعندما كبرتُ بالعمر، أعطيتُهُ كلَّ ما أملك، كلّ ما جَنيتُهُ من تَعَبي، وزوّجتُه.. لكنّ زوجتَهُ لا تحبني.. كانت دائمة التذمّر من وُجودي.. عَذّبوني كثيراً.. وبالآخر، طَرَدوني…

فسألتُ الناس، فدَلّني أحدُهم عليك، وقال إنكَ تصلّي كثيراً، وإنكَ قاضي حاجاتِ الفقراء.. وأنا قاصد ألله وقاصدك.. وإن سَمَحتَ لي، سأبقى لأموتَ عندك…

-لا حَولَ ولا قوّةَ إلاّ باللهِ العليّ العظيم.. أنتَ في بيتِكَ يا شيخ.. أهلاً وسَهلاً بك…

بقيَ عندنا مدةً طويلة.. كان أبي يُحَمِّمُهُ، ويُلبِسُهُ ثيابَهُ، ويقرأ على مَسامِعِهِ القرآن والأحاديث الشريفة، ويُجلِسُهُ في مَجالِسِ أبناءِ العرَبِ الآخرين، الذين كانوا يجتمعون في بيتنا في الأعياد والمناسبات… فكان الشيخُ – كلّما سَمعَ حديثاً دينياً – يتوَرّدُ خدّاهُ الأبيضانِ، حتى يصيرَ وجهه كالبَدر الذي يسطعُ منهُ النور.. ويبكي كثيراً…

كانت أمي تعتني به، أيضاً.. تغسلُ له ثيابه، وتطبخ له مايرغب من طعام.. وأنا أسقيهِ بيديّ…

وفي مرةٍ – وكان عيد نصف شعبان قد اقترَب – طلبَ الشيخ من أبي أن يقطفَ لهُ بعضاً من ثمار (البومَلي ) العملاقة، لأنه يريدُ أن يقضي العيد عند بيت خالي في العاصمة…

رَتّبتْ له أمي ثيابه النظيفةَ في كيس، وحَمَلها له أبي، مع ثمرات البومَلي، ورافقه حتى صعَد في القطار…

وقبل العيد بأيام، لاحظَ خالي غيابَ الشيخ، فتساءلَ بقلق :

-أين الشيخ شعبان..؟!

أجابته زوجته :

-قد يكون مازال يُصَلي على السطح..

لكن خالي بدا عليه القلق من طولِ مدة غياب الشيخ، فطلبَ من أبنائهِ أن يصعدوا على السطح، ويتأكّدوا أنّ الشيخ بخير…

لكنّ الأطفالَ نزلوا خائفين :

-أبي.. أبي.. الشيخ واقع على الأرض، ومِسبحته بعيدةٌ عنه…

صعد خالي مسرعاً، ليرى الشيخ يحاول الكلام، دون جدوى…

أنهَضه.. وعرف أنه أصيبَ بالشلل.. فأسعفه إلى المشفى، وظل عنده حتى المساء.. وفي الصباح، زاره، ليراهم وقد حَلقوا له لحيته المَهيبة.. وعندما لمحَ خالي، أخذ يبكي بمَرارة، ويشير بيده السليمة، إلى لحيته، نادِباً بكلام غير مفهوم.. فوَبّخهم خالي :

-كيف تحلقون له لحيته..؟! ألا تعلمون أنها تشكّل بالنسبة إليه، مَعنىً دينياً سامِياً..؟!

وبعدَ عدة أيام، توفي الشيخ شعبان، ودُفِنَ في العاصمة، بعد أن وَدّعته العائلة بكثيرٍ من الحزن، في موكبِ جنازةٍ كبير، ذبَح فيهِ عجولاً، ووَزّعَ اللحمَ والزكاة على الفقراء والمحتاجين…

(نهاية 27 )

كان “حزب العمال ” يحكم الأرجنتين، في ذلك الوقت، بقيادة الرئيس “خوان بيرون “، وزوجته “إيفا بيرون ” التي كانت تحظى بشعبية واسعة، نتيجةً لاهتمامها بالطبقة الفقيرة…

أذكُرُ أنها كانت تلبّي طلبات الفقراء، الذين كانوا يكلمونها مباشرةً، عن حاجاتهم، خلال زياراتها للمُقاطعات، حيث تقابلها الحشود الجماهيرية الواسعة، مُرَحّبةً، مؤيّدةً لزوجة الرئيس الجميلة، التي تتقرّبُ من الطبقة الفقيرة الكادحة، وتساعدها على تأمين فرص العيش الكريمة…

فمَرّةً، ترسِلُ مبلغاً من المال إلى ربّ أسرةٍ عاطل عن العمل.. أو ماكينة خياطة لأرملة تعيل أطفالها… إلخ..

كنا، مرّةً، أنا وابنة خالي، نحفر الحديقة لأمي.. وعندما انتهينا، صرنا نلعبُ بالمنكاش.. أمسَكتُهُ بالمقلوب، ووضعتُهُ بشكلٍ عموديٍّ فوق راحتيَ اليُمنى، وصِرتُ أرَدِّد :

-” يا عَصاة الراعي، لا توقَعي…..”

لكنها وَقعتْ، وفَجّتْ رأسَ ابنة خالي، التي ذكّرَتني بذلك، هذه السنة، عندما هاتَفتني من بيتِ أختها في طرطوس، حيث – كما تقول – جاءت لتموت في الوطن، عند أختها.. فهي مريضة بالقلب، وليس لديها أبناء..

تكَلّمنا خَليطاً من العرَبية، والسبنيولية.. وضحكنا كثيراً، كأننا مازلنا طِفلتَين، نلهو في حديقةِ دارِنا في الرّوخاس.. أو، في بيتِ أهلِها في العاصِمة..

***

كانت لدى أبي، سيارة شاحنة كبيرة، ينقلُ فيها البضائعَ لزبائنِ المَتجَر.. وعندما باعَها، اشترى سيارة عادية لخِدمَتِنا..

كنا نطلع في صندوق الشاحِنة، أنا، وبنت عمتي، وبنت خالي..وأبي يقودُها بسُرعةٍ عالية –كالعادة -، فنغني، والهواءُ يلطمُ وجوهَنا، ويطيّرُ شعورَنا :

“عَنظَزْ رَمانا، كرّ المَلعونا..”..

فيضحكُ أبي، وهوَ يقول :

-الكرّ، أبوكم ولاك…!!

***

كان العربيّ يفضّلُ أن يتزوّجَ بابنةِ عَرَب.. ولأنّ بنات العرب قليلات هناك، كان الرجُل يتزوّجُ أحياناً، فتاةً صغيرةً جداً، قد يكونُ في عُمرِ أبيها…

مثلاً، خالي، زوّجَ كلَّ بناتِهِ من عَجائز.. لسمعتهم الطيبة، وكي لا تتعلّقَ إحداهُنّ بأجنبيّ…

فقد كانت عاداتهم وتقاليدهم مختلفة عن عاداتنا وتقاليدنا…

فمثلاً، كنا نرى، أثناء الكرنفالات، في كل زاوية، وتحت العتمة، شاباً وشابّةً يتعانقان، أو يمارسان الجنسَ، وُقوفاً، في مَشهدٍ غريبٍ عن تقاليدِنا، التي لا تُحَلِّلُ هذه العلاقات، إلاّ في إطارِ الحياة الزوجيةِ القانونية، بعدَ قراءةِ الفاتحةِ عند الشيوخ، ودَفعِ مَهرِ المرأةِ، حتى لو كان قليلاً…

كثيراً ما كان بعض أبناء العرب، يبولون فوقهم، من على السطح، أو يسكبون فوق رؤوسهم سطولَ الماء.. فيتفرّقوا…

وكان لهذا الواقع أثرٌ كبير في عَدم سَحبِ إخوتي وأخواتي إلى عندنا.. فكثيراً ماكانت أمي تقولُ لأبي :

-أما آن الأوان لأن نسحَبهم إلى عندنا، ياصالح..؟!

فيجيبها :

-انظري إلى الحالةِ الماديةِ، يا سَكينة.. هل تسمحُ بذلك..؟!

ثمّ.. ثمّ هنالكَ يوجَدُ شَرَفٌ، أكثر من هنا….

وكان يقصد اختلافَ تقاليدِ العلاقة بين الرجُل والمرأة…

كانت أمي مقتنعة بذلك، لكنها لم يكن يمرُّ يوم إلاّ وتبكي.. تبكي.. وغالباً ما نبكي على بكائها أنا وأبي.. ويسألها :

-سَكينة.. هل قَصّرنا بحقهم، يوماً..؟!

-لا والله.. أشهَد بالله أنكَ تعامِلهم كأنهم أبناؤك…

-هُم في سِنّ الزواجِ، يا سَكينة.. فهل ترين من المناسب أن نحضرهم إلى هذه الغربةِ، ويبقوا مدةً طويلة كي يتأقلَموا معها..؟!! كيف.؟ كيف سنحضرهم يا سكينة..؟!

-معكَ حق يا صالح.. لكنني أمّ…

-وأنا بمثابةِ أبيهم.. ولن أتأخّرَ عن تقديمِ كلِّ ما أستطيعُ من أجلِهم…

-أنا واثقة تماماً، يا صالح.. لكن.. آه من هذا الزمان…!!

-آهٍ، وألف آهٍ يا سَكينة.. لن أرَخّصَ بكِ، أو بأبنائكِ يا سكينة… هم أبنائي أيضاً.. وأنا مسؤولٌ عنهم أمامَ ربِّ العالَمين، سبحانه.. فلا تخافي… لكن (لا يُكَلِّفُ اللهُ نفساً إلاّ وُسْعَها )…

***

كنتُ في الحادية عشرة، أو أقَلّ، عندما بلَغتُ سنّ النضوجِ الأُنثويّ.. كانت أمي تكلّمني حولَ ذلك.. لكنني ظننتُ للوهلة الأولى، أنني مريضة بالزحار.. وعندما قلتُ لأمي – بخجَل – أوضحت لي :

-آآآ…!! هذا هو “الزحارُ ” الذي قلتُ لكِ أنكِ ستصلينَ إليهِ، يوماً، ككلّ النساءِ في هذه السن…

وعندما بلغتُ السادسة عشرة، بدأ الخطّابُ يتقرّبون من بيتِ أهلي، لطلَبِ يدي…   

لم يعجبني أحدٌ منهم…

تقدّمَ لخطبتي رجالٌ وشبانٌ كثيرون…

كان أبي يتمنى أن أتزوّجَ من ابنِ أختِه… وأمي تريدُ أن تزوّجَني من ابنِ أخيها… لكنّ أحداً من المرشّحين لم يعجبني… وعندما أرَدتُ أن أريحَ أبوَيّ، وافقتُ على ابنِ عمتي.. لكنني نفرتُ منهُ لفظاظتِه، وعَنجَهيّتِه…

فمرّةً، طرَق البابَ، ففتحتُ له.. حَيّاني، ودَخل.. سألته :

-كم يوم إجازتك..؟!

-أسبوع..

كنتُ سعيدةً لأنه سيمكثُ عندنا أسبوعاً كامِلاً..

وماهي إلاّ لحظات، حتى نادَتني أمي منَ المَتجَر، لأساعدَهما هيَ وأبي.. فقد كان وقتُ خروجِ العمّال.. وفي هذا الوقت، يتزايدُ عددُ الزبائنِ بشكلٍ كبير… كنا نخافُ من السرقة، أثناءَ الإزدِحام…

استأذنتُهُ، وخرجت…

وعند انتهاءِ العملِ في المتجر، عدتُ مع أبوَيّ إلى البيت.. قابَلتُهُ مبتسمة.. لكنه ظلّ عابساً مقطّباً.. حتى عندما سأله أبي، ونحن نتناوَلُ طعامَ الغداء :

-كم هي إجازتك..؟!

أجابُه :

-سأعودُ غداً..

وعندما استفسرتُ منه :

-قبل قليل، قلتَ أنكَ ستمكثُ أسبوعاً..!!

بقيَ مقطباً، وأجابني، باستفزاز :

-هكذا صار..

شرحتُ لهُ أنني لم أتركه عن قصد.. إنما لأساعدَ أهلي في المتجر.. حيث احتمال السرقة يكثر في مثل هذه الأوقات..

لكنه لم يتقبّل اعتذاري.. وغادَرَ في اليوم التالي…

فأخبرتُ أهلي أنني لا أستطيعُ العيشَ مع مَن كان بهذه الطباع…

وهكذا ترَكتُه…

***

كان “خورخي بيبيلوني ” جاراً لنا.. وكان يغازلني أنا وشابة أخرى، أبوها عربي، وأمها أجنبية..

كان الرجل قد رأى بأمّ عينه، زوجته الأجنبية تخونه في فراشه مع آخر.. فترَكهما كما هُما، وجَمَعَ ثيابه، وطفليه، وابنته الشابة الجميلة، وجاء بهم إلى بيتنا، لأنّ أي حَلاّل المشاكل.. حكى له ماجرى معه، بحرقةٍ بالغة.. فقالَ له أبي، بسُخريةٍ مُرّة :

-وتركتهما معاً..؟! هذه هيَ عقوبتك..؟! لقد كافأتَ زوجتك خيرَ مكافأةٍ، بأن أخلَيتَ لها البيت، وأرَحتَها من مسؤوليتك، ومسؤولية أطفالِك، لتستمتعَ مع عشيقها، دون حساب.. يالكَ من مُغَفّل..!!

ويبدو أنّ الشابةَ كانت قد حَذتْ حَذوَ أمها.. فقد كانت تتبادلُ مع “خورخي بيبيلوني ” إشاراتٍ جريئة، يرسلها لي ولها، عندما يرانا واقفتين على شُرفة بيتنا المقابلة لبيته.. لكنني، مَرّةً، أحببتُ أن أواجهَهُ بجُرأة.. فأرسلتُ لهُ رسالةً باللغةِ السبنيولية، أقولُ فيها :

(- أنا لستُ عَظماً بالياً، لتقرطهُ، وترميه.. أنا أغلى من ذلكَ بكثير..)

فامتنعَ عن مغازلتنا.. ربما لأنها كانت تذهب هيَ إليه.. وعندما لاحظ أبي ذلك، سألَ أخاها الصغير :

-هل يزوركم أحدٌ في غيابِ أبيكَ، يا صَغيري..؟!

فأجابَ الصغيرُ، دون تردّد :

-نعم.. نعم يا جدي.. الخَبّاز.. الخباز يزورنا.. يدخل ويخرج من النافذة..!!

فطلبَ من أبيها مغادرةَ الدارِ التي كنا نؤجّرهها لهم.. لأنه لا يرغب أن يؤجّرَ أحدَ بيوتِهِ لأناسٍ يمارسون القذارة…

-بيوتنا نظيفةٌ، يا رجل.. ولا نقبل أن نوَسِّخها.. وأنتَ أخلَلتَ بالشّرط…

كان أبي قد اشترى قطعة أرض مُلاصقة لبيتنا.. وهي عبارة عن غابة صغيرة.. كثيراً ماكنتُ أتجوّلُ فيها مُستمتعةً بمنظر الأشجار، والنباتات الخضراء، والعصافير التي تعشّش فيها.. وبعد مدة، عندما تحسّنت حالتنا المادية أكثر، بَنى فيها عدةَ بيوتٍ للإيجار.. كان يؤجّرها لأبناء عَرَب، حتى ولو بأجورٍ زهيدة.. لم يكُن يأخذ من الفقيرِ شيئاً.. وكان قد بَنى أربعة غرَفٍ مُقابل البيت بالحَصى الناعِمة.. أغلقَها أبي من جهة، ومن جهة ثانية، كانت تتسعُ لمرورٍ الشاحنةِ التي كان أبي يوقِفها فيها بعد انتهاءِ عَمله…

هناكَ وَجَدتُ “تْشي تْشو ” مُحتمياً…….

-هل كانوا يحدثونك عن (الشيخ صالح العلي )..؟!

-أوووووه..!!  طبعاً، كانوا يحدثونني.. بل، لم يكن يمرّ يومٌ، إلاّ ويُذكَر فيه (الشيخ صالح العلي)

هناكَ، يذكرونه أكثر من هنا بكثير.. لا عَمّي (الشيخ مَجيد ) ولا غيره…

لم أكن راغبة بالسفر إلى سوريا، إلاّ لأرى (الشيخ صالح العلي ).. وعندما توفيَ، لم أعُد أرغب…

هناك، يقدّسونه.. وعندما توفيَ، كان هناك حزن كبير.. ذبحوا الخِراف، وأقاموا بيوتَ عزاء، في كل نواحي الأرجنتين.. إبن عمتي “عبد الله ” مايزال حتى الآن، يذبح الخراف، ويمدّ الطاولات، ويدعو المعازيمَ للصلاةِ، والدعاء، في ذكرى وفاة (الشيخ صالح )…

****************************************************************************

كانت مريم وعادل قد قرّرا أنه حان الوقت لاتخاذ قرار بتناولها حبوب منع الحمل، بعد أن كادت تموت وهي تلِد طفلها الحادي عشر، الذي وُلِدَ مريضاً، وظلّ يئنّ، حتى توفيَ بعد عشرين يوماً من وِلادته…

كان ذلك في صيف عام 1970م… بعد زواج ابنتها الكبرى بيومين، فقط…

كانت قد أخفت عن العائلة مَوعِدَ ولادتها، وقالت أن عليها الإنتظار عشرين يوماً على الأقل، كي تلِد.. لم تكن ترغب أن تعطّلَ زواج ابنتها…

القابلة القانونية عَجزها عن إنقاذها…

مريم، التي تعاني، منذ سنوات، من فقرِ الدّم، هي الآن تنزفُ ما تبقّى في عروقها من دم…

-دَخيلك يا عادل، أسعِفني.. إنني أموت…

-ماذا أستطيع أن أفعلَ أكثر، يا مريم..؟! واللهِ، لو أستطيع أن أصعَدَ بكِ إلى عند الله تعالى، مباشرةً، لصَعَدتُ بكِ الآن يا مريم.. لكن.. ها أنا قد أحضرت لك القابلة، والطبيب، ونذرتُ كل ما أستطيع من نذور.. فماذا أستطيعُ بَعدها أن أفعل..؟! كلّنا نصَلي من أجلِكِ يا مريم.. و حَسبُنا اللهُ ونِعمَ الوكيل…

بكى عادل.. وبكى جميع الموجودين، من نساء ورجال.. النساء في غرفة الولادة.. والرجال في غرفة الشرقية الخاصة بعادل وضيوفه.. لا أحد مُستقرّ.. الكل يتحرّك.. يمشي، أو يجلس.. يذهب إلى بيته، أو يجتمع مع الواقفين في الخارج.. يبكي قليلاً، أو كثيراً.. منتظراً فرَجَ اللهِ الذي يبدو أنه بعيدٌ عن مريم… عادل، لا يكاد ينقطع عن الصلاة والدعاء.. وجهه شاحب، يحاول – عبَثاً – أن يُقنع الآخرين أنه قد سَلّم أمره لله تعالى، واستراح هو من مَهمة إنقاذ مريم، التي كانت حالتها تسوء باستمرار.. بنات عمها الثلاث، لا يهدأنَ أيضاً..وابنا عمها.. وكذلك زوجة عمها (حليمة ) أم عادل.. فقد كان الجميع يحبون مريم.. وكانت مريم نسمةً منعشة في حياتهم جميعاً، وفي حياة أهل القرية كلها، وكل من يعرفها أو يعرف زوجها.. كانت قد اندمَجت بينهم منذ وطوئها أرض (الخَصيبَة )…

واحد وعشرون يوماً، في البحر، قطعتها “أوغوستوس ” بين “بوينوس آيرس ” و” بيروت “..

كان البحر هادئاً، أحياناً.. ومائجاً، أخرى…

بعد أيام من ابتعاد “أوغوستوس ” عن الميناء، حَلّ “عيد البحرية “.. راحت البواخر القادمة والمغادرة تطلق أبواقها الخاصة، بشكل معزوفة موسيقية متناغمة.. تقترب البواخر المزينة بالبالونات الملونة من بعضها، إلى درجة تكاد تصطدم ببعضها.. فتميل الباخرتان نحو بعضهما، حتى تكاد البالونات تتلامس على حافتيهما.. مما كان يخيف بعض الركاب من خطر الإصطدام.. لكنها لم تكن سوى حركات بهلوانية معتادة في مثل هذه المناسبة، يتقنها طاقما القيادتين، بشكل جيد.. وترى السماء وقد امتلأت بالبالونات المربوطة كمنطاد ملوّن، تتجوّل فوق البحر، ولا أحد يعرف مُستقرّها، في مشهد يُمتع الناظرين، ويخفّف عن الركاب والرّبان وَعثاءَ السفر الطويل…

وكانت هناك أسماكٌ كبيرة تنطّ فوق ماء البحر، قبل أن تعود، وتغوص فيها من جديد، وتشكّل في حركاتها تلك، نصف دائرة…

وفي البحر أيضاً، حَلّ “عيدُ الطفل “.. وكان حظّ “سليمان ” منه، ألعاباً جميلة، منها لعبة على شكل “بابا نويل ” مصنوعة من الحلوى المَحشوة بالشوكولا…

كانت مريمُ تحب الطماطم.. وكانت وجبات الطعام كثيراً ما تخلو منها.. ومرةً، قالت لزوجها :

-اطلب لي طماطم…

فطلبها من النادِل الطليانيّ، الذي بقيَ مدة حتى فهِم ماذا يريدون.. وعندما عرف طلبهما، ضحك، وهو يشير إلى بطنها المُنتفخ، وكأنه يقول : – طبعاً، المرأة الحامل، تحتاج إلى الطماطم… وذهب، فأحضَرَ لها عِدة حَباتٍ منها…

كثيراً ماكان الصغيرُ “سليمان ” يمدّ يديه، أثناء الطعام، إلى أطباقِ الركاب الآخرين.. ممّا أخجَلَ والديه.. فصَعد به الأبُ إلى سطح الباخرة، وقال لمَريم :

-كُلي أنتِ.. وعندما تشبعين، احتفِظي لي ببعض الطعام، وسأتناوَله مع صغيرنا، عندما أنزل…

فتفعل….

وفي مرة، هَبّت عاصفةٌ بحرية قوية.. كان الركابُ يتناولون طعامهم.. وعندما مالَت الباخرة على جانبها الأيمن، ثم الأيسَر، بشكلٍ كبير، اندَلَقت أواني الحِساء الساخِن، ودَخلت بعضُ المياه من النافذةِ الزجاجيةِ المُغلَقة…

خافت مريم.. فحَملت كرشَها، وصَعَدت إلى زوجِها الذي يلاعب الصغير على السطح :

-مابكِ..؟! هل أنهَيتِ طعامك بهذه السرعة..؟!

-لا.. لكن.. أنا خائفة…

-من ماذا..؟!

-ألا تشعر بالعاصفة..؟!

-لا.. أبداً.. لم أشعر بأيّ شيء…

-لقد دَلَقت الحساء، ودخلت المياه من النافذة.. وأنا أخشى أن تغرق الباخرة…

-وإن غرقت، فماذا تفعلين..؟!

-أمسِكُ بهذا العمود الحديديّ…

فضحكَ كثيراً، وأضحَكَها.. وطلبَ منها البقاء معه حتى تهدأ العاصفة.. ففي الأعلى، لا يشعر الراكبُ باهتزاز الباخرة، أو مَيلانها، كما في الأسفل…

كان عادل يمسك طفله من تحت إبطيه، وينزله في المسبح الموجود على سطح الباخرة.. يحرّك الطفل ساقيه، بنشوة عارمة، منتعشاً من تناثر قطرات المياه على رأسه ووجهه، والتي تطال وجه أبيه أيضاً.. والذين يسبحون من الركاب، يفرحون بمشاهدة ذلك الطفل الجميل…

كانت مريم تنظر إليهم، وتتمنى لو أنها تعرف السباحة مثلهم.. لكن.. حتى لو كانت تعرف، فكيف ستسبح، وكرشها أمامها يلوّح بقرب الولادة..؟!

على سطح “أوغوستوس ” كان رجل أعمال برازيلي، هو وزوجته وابنتهما.. نزلت البنتُ في المسبح، وراحت تعوم.. ثم نزلت أمها خلفها.. كان الأبُ يعرف أنه مريض بالقلب، لكنه غامَر، ونزل للسباحة.. فأخرَجوه ميتاً…

أوقفوا الباخرة في “داكار “، وأعادواه مع ابنته وزوجته، في طائرة، إلى البرازيل…

بَدّلوا “أوغوستوس ” الإيطالية الضخمة، بباخرة أخرى يونانية صغيرة.. وعندما اقتربت من ميناء الإسكندرية، بدا المرفأ ضيقاً، كأنه موقف باصات.. دخلت الباخرة بصعوبةٍ كبيرةٍ، بعد أن ناوَرت كثيراً.. تقدّمت، وتأخرت.. نَكّسَت رأسَها، ورَفعته.. ممّا سَبّبَ اهتزازات كبيرة، شعرتْ مَريم معها بالغثيان، بل، وربما تقيّأت.. هيَ التي لم تشعر، يوماً، بدُوارِ السفر، بأيةِ وسيلةِ نقلٍ كانت.. لا قَبلها، ولا بَعدها…

وبعد واحد وعشرين يوماً من الإبحار، رَسَت الباخرةُ في مرفأ بيروت، في التاسع عشر من شهر أيلول عام 1953م…

هنا.. في هذا المكان، قبل حوالي ثلاث سنوات، كان (الشيخ مَجيد ) يودّعُ ابنهُ ذا الثامنة عشرة عاماً…

 شيءٌ ما في داخله كان قد استشرَفَ المستقبل القريب “لن أراكَ بعدَ هذه اللحظةِ يا بُنيّ “….

كنت بيروت قد عَجزت عن علاجِ أمراضِهِ المُزمِنة، كما عجزت طرابلس، وطرطوس، أيضاً، وكلّ أنواع الطبّ الشعبي، وما تبقّى من خِبرةِ الأجداد.. لكنهُ كان قد عَلّمَ ابنهُ أنّ عليهِ أن يكونَ رَجُلاً في مثلِ هذه المَواقف.. “الوَضعُ صَعبٌ يا بُنيّ.. لكنّ الرجالَ تقهَرُ الصِّعاب “…

فكّرَ بوَصيةٍ يودِعُها في صدرِ ابنِهِ البِكْر، كأمانةٍ، على الإبنِ أن يتذكّرَها دائماً، لتصبحَ في روحِهِ كالوَشْم… هناكَ الكثيرُ من الوصايا، لكنّ الوقتَ ضيّق، وعليهِ أن يوجزَها في بضعِ كلماتٍ، تكون هيَ الأهَمّ، قبلَ أن تفضَحَهُ دموعه المَكتومة.. ضَمّ ابنه بين جناحَيه.. قبّله من جبينه، ومن رأسه وكتفيه.. بينما كان عادل يقبّلُ يديّ أبيهِ، وهو يبكي، محاوِلاً ألاّ يراه أبوه يبكي.. حاوَل الشيخُ أن يبتسمَ في وجه ابنه، دون أن تُفقِدَه ابتسامتُه مَهابَته.. كي لا يشعر الصبيّ بالضعف.. وانطلَقت من روحه وَصيته الأخيرة :

-عادِل…

-نعم يا أبي…

-إياكَ والأحزاب..!!

رفع عادل رأسه، لتلتقي عيناه بعينيّ أبيه، لأول وآخر مرةٍ، متسائلاً: “ماذا أيضاً يا أبي ..؟! “.. وجاءته الوصية الثانية :

-إياكَ والتعصّب الطائفيّ..!!

لم يدرك عادل لماذا أوصاه أبوه بتلك الوصية.. فهو لم يعرف التعصّب إلاّ للحقّ.. ومنذ أن وَعى على الحياة، كان بيت أبيه يعجّ بالناس من كلّ الطوائف والمِلَل والإنتماءات.. كان الوطنُ يوَحّدهم.. والثورة على المُعتدين تجمعهم، وتؤلّفُ بين قلوبهم.. فما الداعي لهذه الوصية، في هذا الوقتِ بالذات، يا أبي..؟!

أما الوصية الثالثة، فلم يفصح عنها عادل، حتى لأقرَبِ الناس إليه.. لكنّ البعض خمّن أن الأب كان يوصي ابنه بعدم الإنجرار وراء إغواءات النساء…

لكن هذا لم يتعَدّ حدود الظن.. أما إن كانت حقيقة، فعادل لم يكن بحاجةٍ إليها، لأنّ ثقفته لا تُجيزُ ذلك.. ففي ثقافته، الزوجةُ هيَ الحبيبةُ الوحيدة.. وهيَ العِرض – كما الأرض تماماً – .. وهوَ مخلصٌ لأرضِهِ وعِرضه.. بل، ويزود عنهما بالروح والدم، إن اقتضى الأمر…

كان الشيخ مجيد قد زار الأرجنتين إبّان الثورة، لكنه لم يمكث مدةً طويلة…

على رصيف الميناء، كان بعض الأهل والأقارب والمعارف ينتظرون نزول عادل وزوجته وطفلهما…

وما إن أطلّوا، حتى تسابق المستقبلون ليسلموا على عادل، ويتعرفوا على زوجته وابنة عمه، ويحملوا الطفل الصغير الجميل.. يتسابقون على حمله وتقبيله.. وعلى حمل أغراض القادمين، وتحميلها في السيارة التي أقلّتهم جميعاً إلى (طرطوس ).. وانتقلوا بعدها إلى السيارة الوحيدة التي ستوصلهم  إلى (الخَصيبَة ) عبر طريق مليئة بالحُفر والحَصى، طوله حوالي أربعين كيلو متراً…

تذكّرت مَرْيَمُ، بكثير من الضحك والقرَف، أنها قبّلت رجلاً كان من ضمن المستقبلين في مرفأ (بيروت ).. ظنته ابن عمها.. وإذا بعادل ينبّهها على أنها تقبّل، ليس – فقط – لأنه لم يكن ابن عمها.. بل، لأنه مَكروه، وغير محَبب إلى أحد.. فهو أحد الأغنياء القلائل.. والبخلاء، أيضاً.. وستذكر بعد ذلك بسنوات قليلة، أن ابن عمها الذي كان يتعلّم في (طرطوس ) اضطرّ، مَرّةً، أن يطلبَ من هذا البخيل، خمس ليرات، دَيناً.. إلى حين يتوفر المبلغ مع أخيه عادل، عندما يبيع التبغ.. لكن الآخر رفض رفضاً قاطعاً، بحجة أنه لا يملكها.. هو التاجر الغنيّ.. مما جعل عادل ينخرط في بكاءٍ مَرير…      

وتدمع عينا مريم، وهي تتذكّر بعضَ المواقف المُشابهة.. حين كبرت العائلة، وقَلّت الحيلة في تأمين ما يلزم لأفرادها من حاجات العيش الكريم، وتعليم أخوَيّ عادل، وأبنائه وبناته.. إلخ

قبل الوصول إلى الخصيبة، بعدة كيلومترات، شعَرعادلُ بالعِزةِ، وهو ينظر نحو (وادي وَرْوَر )

حيث كانت قد وقعت المعركة الشهيرة، التي شارك فيها أبوه… هناك، فاجأ الثوار الحملة الفرنسية الكبيرة، بعِدّتها وعتادها، وجنودها وضباطها المدرّبين أحسن تدريب، والذين لهم خبرات عسكرية لا يُستهان بها.. اكتسبوها من خلال استعمارِ مناطق أخرى كثيرة في هذا العالم.. طمَعاً بالخيرات التي استكثروها على أهل تلك المناطق البائسة…

أغار الثوار الأباة على الحملة الفرنسية.. ودارت معركة حامية.. انتصر فيها الثوار الأبطال.. واستطاعوا إبادة كل أفرادها، والإستيلاء على أسلحتهم.. وعندما لاحظ بعضهم أن جفنة آسٍ تتحرّك، أشارَ إلى رفاقه أن يحذروا…

كان الشيخ قد وعد الثوار بمكافأة مالية كبيرة، لمن يستطيع أن يأسر جندياً فرنسياً.. لكن الصيد كان أثمن مما توقعوا بكثير… كان هناك قائد الحملة مضرّجاً بدمائه.. وما إن شعر بوجودهم، حتى أشهرَ مسدّسه في وجوههم.. فألقوا أسلحتهم، ورفعوا أيديهم.. فألقى هو – بدوره – سلاحه.. واستسلم للثوار.. الذين اقتادوه إلى بيت الشيخ صالح.. فأجزلَ لهم العطاء.. واستطاع كل واحد منهم أن يُطعم أسرته عدة أيام…

بادَرَه الشيخُ بالسلام، ليُشعِره بالأمان.. واستدعى للأسير، أفضل الخبراء بمداواة الجراح.. أطعمه من أفضل ما لديه من الطعام.. وسَقاه الماء العذب.. نيّموه فوق فراشٍ مريح.. ووضع الشيخ حُرّاساً عليه، حتى شُفي…

كل هذه الذكريات مَرّت أمام (عادِل ) بلَحظةٍ خاطِفة.. دَمَعَت عيناهُ، وهوَ يتذكّرُ سَبَبَ مجيئه.. وأنه لن يكحّلَ عينيه برؤية أبيه بعد الآن.. وعندما وَصل إلى (بَيْدَر غنّام ) لاحظَ أنّ طفلاً صغيراً يلبس قميصاً طويلاً، يركضُ نحوَ السيارةِ، حافيَ القدَمين، غير عابئٍ بالحجارة المُدَببةِ، والترابِ، على ذلك الدّرب الضيّق، النازلِ عن تلّةٍ ذاتِ تُربةٍ بيضاء (قَلعْ بيت الحَجَر )…

شَهَقَ عادِل، عندما عرف أنه أخوه الأصغر (علي )الذي لم يرَه منذ ثلاث سنوات.. ارتَمى الصغير في حضن أخيه الأكبر.. ضَمّه (عادِل)والدموعُ تبلّلُ وَجهه، ورأسَ أخيه.. قبّلته (مَرْيَم) عندما عرفت أنه ابن عمها.. شعَرَت بالقوة.. فهاهُم أهلها.. سَنَدها.. يظهرون الواحد تِلو الآخر.. هاهيَ في أحضانِ أهلها في الوطن.. كما أخبرَتها أمها… استَرخى علي في حضن أخيه، وهو ينظر بإعجابٍ إلى ذلك الطفل الأنيق الجميل، الذي يجلس مُلاصِقاً له في نفسِ الحضن.. لم يكن يعرف حتى ذلك الوقت، أنه ابن أخيه عادِل…

وصلت السيارة اللاندروفر، إلى بُعد كيلومترين من (الخَصيبَةِ ) شِمالاً، حيث كانت جموع الأقارب والمعارف والأحبة، مُتجمّعةً لاستقبالِ عادِل وأسرته الصغيرة..

قبلاتٌ، وترحاب، ودموعٌ، وضحكات…

الكلّ يتسابَق على حَمل الطفلِ السمينِ النظيفِ الجميل، الذي كانت مَريم قد سَرّحت له شَعره الناعِم، كعادَتها، فرقٌ من كِلا الجانبَين، ثمّ تجمعُ الشعر الأشقر الناعم، في مُنتصفِ الرأسِ، وتميلُه، بواسطةِ كَفها، نحوَ الأعلى قليلاً، ليُصبحَ أشبَه بمَوجةٍ رَقيقةٍ من مَوجاتِ البحرِ الهادئ…

حاوَل أحدُ أقاربها أن يغيّر لهجته قليلاً، محاوِلاً أن يجعلَ مريم تفهم عليه بالعربية..

ضحك الجميعُ، عندما فاجأتهم مَرْيَمُ أنها تُتقن العربيةَ مثلهم تماماً.. فصاحَتْ بقريبها، ساخِرةً :

-لماذا تتكلّم هكذا، يا ابن عمتي..؟! كأنكَ لا تُتقن العربية..!!

وَصَلَ الجميعُ إلى مَقبرةِ الرجال، حيثُ يرقدُ (الشيخ مَجيد ) منذ عِدّةِ أشهر…

ارتمى (عادِلُ ) فوقَ تُربةِ أبيهِ، وراحَ يمَرّغُ رأسَهُ ووجهَهُ فوقها.. يشهق.. ويشهق.. ممّا جعَلَ الجميعَ يُجارونهُ…

-رحِمَكَ اللهُ يا أبي….. رحِمكَ الله.. وأعانَني على استِلامِ الأمانة…. وعَهداً… أن أؤدّيها على أكمَلِ وَجهٍ، يا أبي….

قرأ الجميع الفاتحةَ على روحِ الشيخِ الجَليل… ودَخلوا جامِع (الشيخ علي ).. أوقَدوا البخور.. صَلّوا.. وقرأوا الفاتِحةَ، وأكثَروا من الدّعاء…..

زارَتْ مَريم قبرَ جَدِّها لأمّها، الذي يرقدُ في نفسِ المَقام.. لاحَظَ الجميعُ أنّ حُبَيباتٍ منَ الماءِ النقيِّ بدأت تتشكّلُ جَنوبيّ القبر.. لأولِ مرةٍ يرَونها في هذا المكان.. صاحوا :

-ألله أكبَر.. أللهُ أكبَر.. أللهمّ صَلِّ على مُحَمّدٍ، وآلِ مُحَمّد… إنّ جَدّكِ يُرَحِّبُ بكِ، يا مَرْيَم….

شَربت مريم، ودهَنت رأسَها ووجهها، وسَقت الصغير، ومسَحت رأسَه ووجهه بالماء المقدّسِ، أيضاً.. صَلّت، ودَعت كثيراً….

ثم خرج الجميع، ومشوا والي كيلومتر آخر، على طريق ترابية ضيقة، كثيرة الحَصى.. تحيط بها نباتات خضراء ناعمة، وأشواك من “البلاّن ” و “الشّفشاف ” و “الحَيصَل ” وبعض نباتات العَوسَج.. حتى وَصَلوا إلى بيتِ العائلة، الذي يتوَسّطُ (الخَصيبَة ) التي تقعُ على تَلّة….

هناكَ، انضمّت مَريم، لأولِ مرةٍ، إلى جُذورِها في الوطنِ الأمّ.. في البيتِ الذي مازالت تسكنه مع العائلة، منذ أكثر من خمسين عاماً.. لتعيشَ فيه حياةً حافلةً بالجِدّ والنشاط، والتعاوُن، والتكافُل.. بالحُلوَةِ، والمُرّة.. هيَ التي اختارَت.. وهيَ مقتنعةٌ بهذا الإختيار.. لذلك، كانت، وما تزالُ تتحَمّلُ هذا العِبءَ بكلِّ إيمانٍ وتصميم…

اندَمَجَتْ مع أسرتها الجديدة، ومع واقعها الجديد، بشكلٍ سَهلٍ وطبيعيّ.. لم تستغرِب الجَوّ كثيراً.. فقد كانت أمها الرائعة، قد أخبَرَتها عن كلِّ شيء.. عن الوطن.. بيئته الجبَلية.. وطقسِه.. والفقرِ الذي يعيشُ فيه أبناؤه.. عن الأقارب واحداً واحداً.. عن أخوَيها وأختَيها، التي كانت إحداهنّ قد توُفيت من سنوات.. وعن أبنائها وبناتها، وأزواجهم وزوجاتهم.. عن أسماء الأراضي، ومواقعها.. وعن كل شاردة وواردة.. كي تضعَ ابنتَها في الجَوّ الصحيح.. لتُسَهِّلَ عليها التأقلُمَ مع واقعها الجديد، قدرَ الإمكان.. وقد أفلَحَت (سَكينَةُ ) إلى حَدٍّ كبير…   

بعد خمسة وعشرين يوماً من وُصولِها، شَعرت مَرْيَمُ بآلامِ المَخاض :

-زوجة عمّي.. إنني في المَخاض، وأريدُ مَشفى..

ضحكت حليمة :

-نحن هنا ليس لدينا مَشفى، يا مريم.. نحن نعتمدُ على اللهِ والمؤمِنين…

اطمَئني يا ابنتي، فستلِدينَ بالسلامةِ، إن شاءَ اللهُ تعالى… وستُساعِدُكِ “أم محمد “.. هيَ دايَتُكِ، منَ الآن، فصاعِداً…

دَخلتْ حليمة المَزارَ، بكلِّ خشوع.. أوقَدَتِ البخور.. قرأتِ الفاتحَةَ، وبَعضَ الآيات القرآنية التي تحفظها غَيباً.. فهيَ لاتعرف القراءةَ والكتابة، لكنها تعرف كيفيّة التواصُلِ الروحيّ مع اللهِ تعالى، بالأدعيَةِ، والطلَبِ من الله القادِرِ على كلِّ شيء، بقلبِها النقيّ السليم.. كلّ ماترغبُ أن تحصلَ عليه من الخالِق.. أصل الخَلْق، ومُنتهاه.. الذي يفعلُ مايَشاء.. ولا يأتي من عند الله تعالى إلاّ الخير.. كلّ الخير.. حتى لو بَدا لنا غيرَ ذلك…

(عَسى أن تكرَهوا شيئاً وهوَ خيرٌ لكم )…

أحضَرَت لها تُراباً مُقدَّساً، و “خَلْعَةً ” من المَزار.. مَزَجَتِ الترابَ بالماءِ النظيف، وسَقت مَريم، ومَسَحَت لها وَجهَها ورأسَها.. و بمُساعَدةِ الدّاية، تمّتِ الولادةُ بخيرٍ وسَلام..

طِفلةٌ جميلةٌ.. لم يتردّد عادِل في إطلاقِ اسم “بَتول ” عليها.. فهوَ، من الآن فصاعِداً، سيُطلِقُ على أبنائهِ وبَناتِه، أسماءً تشبهُ أسماءَ إخوتِهِ وأخَواتِه…

-لم أكُن خائفة من الولادة.. لكنني لم أستطعِ النوم.. ليس من آلامِ المَخاض، بقدرِ خوفي من أن تفلتَ البقرةُ التي تجتَرّ مع بقيةِ الدوابّ، تحتَ “السّيباط “، وتدعَسَ في بَطني…

***

كانت مريمُ أولَ مَن عرفت كيف تعطي المَرضى حقنَ البنسَلين، حتى ولو خِفيةً عن زوجِها، الذي كان يخاف عليها من أن يموتَ أحدُ الأطفالِ المَرضى، وقد يعزو أهلَه موته إلى حقنةِ البنسلين…

و مَريم، الوحيدةُ التي كان يقصدها القاصي والداني، من القرية، أو القرى القريبة أو البعيدة، لتقرأ لهم رسائلَ ذويهم في الغربةِ، التي كتبوها باللغة الأسبانية.. وتكتبَ لهم الرسائلَ الجَوابيةَ، التي يُملونها عليها…

فعادل، لم يكن يُتقِن الأسبانيةَ كثيراً.. حيث أنه لم يمكث في الأرجنتين أكثرَ من ثلاثةِ أعوامٍ، بكثير…

ومريم، الوحيدة التي تجتمع عندها في البيت، نساءُ القرية والقرى المجاورةِ، دون أن تمَلّ إحداهنّ من حديثِها، أو تزعَلَ منها.. أبداً…

مريم.. تلك النسمةُ الربيعيةُ التي يفوحُ عِطرُها حيثما ذُكِرت، وأينما حَلّت.. فهيَ بَرَكة.. يتبرّكُ بها كلُّ من يعرفها، أو يسمعُ عنها…

و مريم، التي تستقبلُ ضيوفَ زوجها بالترحاب.. وقد أصبحت خبيرةً في صُنعِ ما يحبه كل ضيفٍ من أطعِمة.. وتعرف مَن منهم يرغب في شرب الشاي، أو القهوة، أو المتة، أو الزهورات.. ومتى يفضّلُ شربها.. قبل الطعام، أو بعده.. فورَ وصوله، أو بعد وصوله بقليل.. مع السكر، أو بدون سكر.. وأيّ نوعٍ من الزهورات يفضّل.. يحبها ثقيلة، أم خفيفة…

وتعرفُ ماهي الأمراض التي يعاني منها أغلبُ ضيوف زوجها.. وكيف عليها أن تمتنعَ عن وَضع المِلح على قِسمٍ من الطعام، ليتناوله الضيف الذي يعاني من ارتفاع ضغطِ دَمه..

مَرْيَمُ.. التي لا تعرفُ مُتعةً في الحياةِ، سوى مُتعة العطاءِ، والتسامُح…

مُتعةَ الرضى بما قضى الله تعالى.. وبالواقعِ الذي اختارَتهُ بنفسِها، غير نادمة….

***

عَشراتٌ من النساء والرجال، والشباب والشابات، وحتى الأطفال.. من القرية، ومن القرى المُجاوِرة، يتجَمّعون حَول بيتِ عادِل، في “الدّوّارَة “.. يدخلون، ويخرجونَ، من البيت، وإلى البيت.. للإطمئنان على صحةِ مريم.. كلهم باكٍ.. وكلّهم قَلِقٌ إلى درجة الرعب، على سلامتها..

كلهم يُصَلّي، وينذر، ويدعو اللهَ العَليّ القديرَ، الشافي المُعافي.. والنبيّ الأعظم “ص ” والأولياء جميعاً “ع “، أن يتشَفّعوا عند الله تعالى، كي يشفيَ مَريَم….

كيف لا.. يا مَرْيَم..؟!

كيفَ لا.. أيتها الطاهِرة..؟!

أنتِ أمُّ الجميعِ، وأختُ الجميع، وصديقةُ الصغيرِ والكبير…

أنتِ المُتسامحةُ السّمحةُ، مع الجميع…

لم يزعَلْ منكِ، يوماً، أيُّ إنسانٍ، يا مريم…

لم تأتِكِ اثنتان من جاراتكِ، مختلفتان، يوماً، إلاّ وأصلَحتِ بينهما، على أحسَنِ ما يكونُ الإصلاحُ، يا مريم…

لم تتأخري عن خِدمةِ مَخلوقِ،  حتى دون أن يطلبَ منكِ خِدمةً، يامَرْيَم…

أنتِ المرأةُ التي ترَكتِ العِزّ في بيتِ أهلِها في الغُرْبَة.. واختارَتْ أن تأتي لتعيشَ بين أهلِها، وأبناءِ عمومَتها في الوطنِ، يا مَرْيَم…

اندَمَجتِ، فوراً، بينهم.. وكأنكِ تعيشين معهم منذ الأزَل…

نمتِ بينهم، في بيتِهم الطينيّ.. فوقَ “السّيباط “.. والدوابّ في مَربَطِها تحتَ “السّيباط “…

صحيحٌ، أنكِ خِفتِ، أولَ الأمر، ولم تستطيعي النومَ خوفاً من أن تفلتَ إحدى البقرات، وتدوسَ في بَطنِكِ، يا مريم..

وصحيحٌ، أنكِ لم تستطيعي مُجاراتهم، يوماً، في الجلوسِ على الحَصيرِ، أو في وَضعيةِ القُرفصاء.. أو أن تتسَلّقي شجَرةَ التوتِ، لتشفطي الوَرَقَ لتُطعِمي دودَ الحَرير، يا مَريم…

لكنكِ، بعدَ سنواتٍ قليلة، صِرتِ تعلّفين الدوابّ، وتسقينها، وتكنسينَ تحتَها، وتحلبينَ البَقرات، والغنمات.. وتربّينَ الدّجاجَ، والبطّ، والإوَزّ، أحياناً… وتكنسينَ خُمَّ الدجاجِ.. تجمَعين البيضَ.. وتتفقّدين “القِرَقَ “.. وتفقّسينَ دودَ الحَريرِ.. تفرمينَ وَرَقَ التوتِ.. وتقشّطينَ الدودَ، بخِبرَةٍ توازي خِبرةَ أيةِ امرأةٍ في (الخَصيبَة ).. وتربطينَ “الشيحَ “.. تقطفينَ القَزّ…

كنتِ تعجنينَ، وتخبزين، على التنّورِ، كل يومَين مئة رغيفٍ من طحين الحنطة البلدية السمراء.. تساعدك بتولُ في رَقّها وهَلِّها، وإحضارِ “الحْمايِة ” إلى التنّور… بل، وحتى إنكِ جَرّبتِ أكثر من مرة، أن تنقلي الماءَ من “عين الغربية ” لكنكِ لم تستطيعي حَمْلَ جَرّةِ الفَخّار، أو تَنكَةَ الصّفيحِ، على رأسِكِ، أو كتفِك… كنتِ تحضنينها فوقَ بَطنِكِ، أو صَدرِك.. ممّا يُثيرُ ضحكَ الآخرينَ، المُحِبّ…

لم تقولي، يوماً “كنتُ ” … أبداً… يا مَريم……

أنتِ مَنِ اخترتِ هذا الواقعَ، وأنتِ التي قبلتِ به.. ولم تتذمّري…..

آنَسْتِ الخَصيبةَ يا مَريَم….

ساهَمتِ في رَفعِ شأنها، أيتها الطّيبة….

كم امرأةٍ تعلّمت على يديكِ الخياطةَ، أو أصلحتِ لهنّ ماكينات الخياطة……!!

كم امرأةٍ تعَلمت على يَديك التطريز على “الطّارَةِ ” الخشبية..!!

أو حياكَةَ كنزاتِ الصوفِ.. ونقلَ القطَبِ من “الجورنال “.. !!

أو شغلَ صنارةِ “الكْروشيه “.. أو شغلَ الإبرة.. أو تنسيلَ بعضِ الخيوط من قماشِ الكتّان، بشكلِ فنّي ناعِمٍ، لتزيدَ من جَمالِ القِطعة……!!

كم امرأةٍ أو طفلٍ، تعَلّموا على يَديكِ القراءةَ والكتابة….!!

كم ساعَدتِ الفقراءَ والمُحتاجينَ، يا مَرْيَم………..!!

كم رَقّعْتِ ثياباً..!!

وكم قطعتِ عن نفسِكِ وأطفالِكِ، لتساعِدي مَن هم بأمَسِّ الحاجة إلى ذلك، يا مَريَم……..!!

ولا تريدينَ على ذلكَ جَزاءً، ولا شُكورا……………………

ماذا سأعدُّ من فضائلِكِ، يا مَرْيَم……………………….!!

وكيفَ أحصيها، أيتها المَرأةُ، الوطن…؟؟!!

فكيفَ لايقلقُ عليكِ كلُّ هؤلاء….؟؟!!

وكيفَ لا تهتزّ ” الخَصيبَةُ ” وغيرُ الخصيبةِ، على وَقْعِ سماعِهم خبَرَ مرضِكِ، وخطورةَ وَضعِكِ، يا مَريم….؟؟!!

كيف لا يشعرُ زوجُكِ بتأنيبِ الضميرِ تجاهك..؟!

هوَ الذي يعرفُ كيف كنتِ تعيشين.. وكيف أصبحت عيشتكِ، يا مريم..؟!

كيف تنبّهَ، بعدَما ظنّ أنهُ سيفقدُكِ، لا مَحالة، بين لحظةٍ وأخرى، أن ينزلَ إلى طرطوس، بحجّةٍ واهيَة، والقصدُ هو المرورُ على الفندقِ الذي تنزل فيه بَتول وعَريسها، من يومَين فقط.. ليُخبرَ ابنتكما الشابةَ الصغيرةَ، التي مافتئتِ توصينَ حَماتها بها :

( – أم كامِل… أوصيكِ ببَتول…… بَتولُ مازالتْ صغيرةً.. صغيرةً جداً، يا أم كامِل.. أوصيكِ بها، يا أم كامل… انتبهي عليها جيّداً……… بَتولُ، أمانةٌ عندَكِ.. فهيَ مازالت صغيرة.. لا تعرفُ شيئاً عن هذه الحياة…………….)

لم توصي بأحَدٍ، سوى ببَتول، يا مَريَم……….

فكيفَ لا تعبدُكِ بَتول، يا أمها الغالية……..؟؟!!

بَتولُ، التي لم تكنْ راغبةً بالزواج.. لكنكِ أخَفتِها من عِقابِ أبيها، إن لم توافق :

“- والله، كان أبوكِ يذبحك، إن لم توافِقي…”

قلتِها بعَفويّةٍ، ربما….

وربما، لأنكِ كنتِ راغبةً بحياةٍ أفضَلَ لابنتِكِ، يا مَرْيَم…

فارتعَبَتِ الصغيرةُ من احتمال عقوبة أبيها، إن قالت “لا “…. في ذلك البيتِ الذي لم يعتَدْ فيهِ أحَدٌ على قولِ “لا “…. أو، حتى التذمُّرَ من شيء.. مهما كان مُخالِفاً لرَغبتِه…

هذا البيتُ الذي يعمل أهله بشكلٍ متواصل، كخلية نحل…. لم يكنْ فيهِ مُتّسَعٌ للمُناقشةِ، أو الإعتراض…

اتصلَ عريسُها من الفندق، إلى الهاتف الوحيد، الذي يُدارُ باليَدِ، بشكلٍ دائريٍّ كالطاحونة، عند التاجر الغني “سميع شيبان ” :

-ماذا لديك من أخبار الخصيبة..؟!

-ليش.. ألم تسمع..؟!

وجُنّ جنونُ بَتول :

-أمي… أمي… ما بها..؟!؟!

ماتت..؟! ماتت..؟؟!

قُل لي.. قُل لي..!!

آآآآآآآآآآآآآآآه………………………….!

بصوتٍ ارتجّ لهُ الفندق..

مما أخجَلَ، وأربَكَ عريسها.. فحاوَلَ طمأنتها.. لكنها ألحّت عليه بالعودة إلى “الخَصيبَة “.. لترى أمها……….

استأجَرَ عريسُها تاكسي، وعاد بها إلى القرية، ليجدا الخصيبة كلها تترقّب بقلق بالغ وَضع مريم…

تجَمّعٌ حاشِدٌ من الأهالي حَولَ بيتِ “عادِل الشيخ مَجيد “….

وبسرعةِ البرقِ، دخلت بَتول :

-أمي… أمي ي ي ي ي ي…………..

أخبِروني… ما بِها أمي……….؟؟؟!!

ماتت..؟! قولوا……… لا تخفوا عني شيئاً……….

حاوَلت عَمّاتها مَنعَها من الدخول، إلى أن تهدأ.. فوضعُ أمها لا يحتملُ  أيّ انفعال.. لكنها أصَرّت على الدخول، مُحاوِلةً أن تبدو متماسِكةً قدرَ الإمكان….

تنبّهَتْ مَرْيَمُ أن ابنتَها بَتول هيَ التي تقبّلها هذه القُبلةَ الدافئة… هيَ التي تُلصِقُ خدّها بخدِّها، وتهمسُ في أذنِها :

-حَبيبتي، يا أمي………. حبيبتي….

استدارَت مَريَم.. فتحَتْ عينيها رُبعَ فتحةٍ، ورَفعَتْ يَدَها اليُسرى، مُحاوِلةً أن تحيطَ بها عنقَ ابنتِها، التي لم تتمالكْ نفسَها أكثر :

-بَتول.. جِئتِ يا مَلعونة..؟! كنتُ سأموتُ يا ابنتي.. الحمد لله.. الحمد لله……

مُسرِعةً، خرَجت بَتول.. لتنهارَ فوق المقعدِ في الغرفةِ المُجاورة.. مُطلِقةً العِنانَ لمَشاعِرِها كلّها، بالتعبيرِ الصادِقِ الحُرّ :

-أعيديني إلى رَحِمِكِ، يا أمي.. فأنا غيرُ راغِبةٍ بهذا الزواج.. غيرُ راغِبة.. غيرُ راغِبة….

أمي….. عيسي يا أمي… أرجوكِ، عيشي…..

مازالَ الوقتُ مُبكِراً على الرحيل……

لم أشبَعْ منكِ، يا أمي…

أعيديني إلى رَحِمِكِ يا أمي..

فأنا لا أرغبُ بمَن ضَرَبَني وأنا مَخطوبةً له.. ولا بمَن يحرمُني من كلِّ ما لا يُعجبُه..

يُقيّدني….

أنا حُرّةٌ، يا أمي…

حُرّةٌ، وابنةُ حُرّةٍ، وابنةُ أحرار… لم ينحَنوا، يوماً، لسِوى خالِقِهم جَلَّ جَلالُه….

لا أستطيعُ العَيشَ مع مَن يحرمُني من حُرّيتي، وكَرامَتي…..

أنا غيرُ قابلةٍ على التدجينِ، يا أمي…

أنا مُهرَةٌ عَرَبيةٌ، لا تقبَلُ التدجينَ، مهما رَوّضوها……..

***

ها هيَ صورتُكِ أنتِ وعادِل، ليلةَ زفافكما، مُعَلّقةٌ على حائطِ الصالون، إلى جانبِ صورتِكِ معَ أبوَيكِ.. واقِفين.. تلبسينَ طقماً أسوَدَ، تنّورَتُهُ واسِعةٌ، تصِلُ تحتَ الرّكبتينِ بعِدّةِ سنتيمترات، وقميصاً أبيضَ أنيقاً، وتحملينَ في ساعِدِكِ الأيمَنِ، حقيبةَ يَدٍ سَوداء..

شَعرُكِ المُصَففُ، يعلوهُ غصنٌ من الوَردِ الأبيضِ الناعِم..

وزوجُكِ النحيلُ، الجَميلُ إلى جانِبِكِ، يلبسُ طقماً بُنياً، وقميصاً أبيضَ، وكرافتة.. تظهرُ من جَيبِ الجاكتة قطعةُ قماشٍ مثلّثةٍ، تشبهُ المَحرمة..

جميلةٌ، أنتِ يا مَريَم… وجَميلٌ، ابنُ عمكِ عادِل…

كم كنتِ، حينها، وما زلتِ تشعرينَ بالدّعمِ الماديّ، والمَعنويّ، من يومِ أن وَصَلَ عادِلُ إلى ميناءِ “بْوينوس آيرس ” ليتزوّجَكِ….!!

مَعذورةٌ، إن أحبَبتِهِ إلى هذا الحَدِّ، يا مريم..

ومَعذورٌ، هو أيضاً، إن أحَبّكِ بنفسِ الدّرَجة….

(الحَمْدُ للهِ تعالى )..

تصاعَدتِ الصّلواتُ، شكراً للهِ العَليّ القدير، عندما بدأتْ صحّتُكِ بالحَسّنِ، يا مَريَم…

بدأت دموعُ الفرَحِ تتساقطُ من العيون.. والنذورُ توَفّى، شُكراً للهِ تعالى، الذي مَنّ عليكِ بالشّفاءِ، وأعادكِ إلى الحياةِ ثانيةً، حتى ولو بوَجهٍ شاحِبٍ جداً..

كانَ ما يزالُ شاحِباً، عندما سَمعتِ بخبَر وفاةِ أمكِ، وأنتِ تجلسينَ على كرسيّ صغيرٍ من القشِّ، وتدعكينَ تِلالاً منَ الثيابِ الصغيرةِ والكبيرةِ، المُلونة والبيضاء، في “طَشْتٍ ” أمامكِ، فوق كرسيّ آخر.. ووعاءٌ من الصفيحِ يغلي فيه الماءُ، وبَرْشُ الصابونِ، والمَسحوقُ المُبَيِّضُ للغسيل.. فوقَ مَوقدٍ من الحَطبِ، على يمينكِ، في (بيتِ الشّرْقي ).. تلبسينَ فستاناً مُزهّراً، يغطّي رُكبتيكِ.. وتحتهُ بنطال بجامةٍ واسِع، يستُر ساقيكِ التي تنفرُ منها عُروقُ الدّوالي الزرقاء.. وشَحّاطة من البلاستيك، نمرَتها أكبر من نمرة حذاء زوجِك…

تهَلّلَ وجهُكِ، عندما ناوَلتكِ ابنتُكِ الرسالة.. مَسحتِ يديكِ النافِشتينِ من الرطوبةِ والماءِ الساخِن.. إحداها يكادُ الدمُ يخرجُ من تحتِ جلدِها الرّقيق، لكثرةِ ما دَعَكتِ فوقها الغسيل…

وبسرعة البرق، فتحتِها.. وبَتولُ، وصديقتُها تنظرانِ إليكِ بفضولٍ، لم يلبَث أن أغرى بقيةَ أبنائكِ بالتجمّعِ حَولكِ، للإستماعِ إلى أخبارِ الجَدّينِ في ذلكَ الوطنِ الغريبِ، الذي ما يكادُ يمرّ يومٌ إلاّ ويُذكَرُ فيه.. ولم تبرَحْ تفاصيلُ حياتكِ فيهِ مُخيِّلاتهم، أبداً…

تساءَلَ بعضُهم :

-هل ما يزالُ جَدّاهم يُطالبانِ بهم..؟!

أم أنّ جَدّهم مايزالَ يلحّ على إرسالِ “سليمان ” فقط..؟!

لكنّ وجهَكِ، ما إن قرأتِ عدّةَ أسطر، حتى تحوّلَ إلى وجهِ مَوتى…

ما بكِ، يا مريَم..؟!

آه.. يا أمي…….!!

أخذتِ تقبّلينَ الرسالةَ، ثمّ تلصقينها بصَدرِكِ، تمَرِّغينها فوقَ خدّيكِ المُبَلّلينِ بالدموعِ الحارِقة.. وفوقَ قلبكِ الدامي، يا مَريَم…

-ماتتْ أمي ي ي ي ي ي……….!!!!!

ماتتْ.. ماتت…………………..

لم يُخبروني سوى أنها مريضة..

ظننتهُ مرضاً عادياً..

هيَ عَجوز.. فكيفَ لا تمرض..؟!

في كلِّ رسالةٍ، كنتُ أسألُ أبي عن حالِ أمي.. فيجيبُ إنها ماتزالُ على حالِها.. فأحمدُ اللهَ أنّ حالَها لا تسوء..

لكنني لم أعرف أنه مرضُ الوَداعِ الأخيرِ، يا أمي…

آه… يا أمي….!!!

سامِحيني يا أمي.. سامِحيني.. سامِحيني أرجوكِ.. آخ… يا أمي.. يا حبيبتي.. يا صديقتي.. يا غالية….!!

رحلتِ…؟! أكادُ لا أصَدّقُ أنني سوف لن أراكِ يا أمي..

رحمَكِ الله.. رحمكِ الله.. رحمكِ اللهُ يا أمي……

(إنا لله وإنا إليه راجعون )..

***

بعدَ مدة.. أرسَلَ (صالِح ) رسالةً إلى ابنتهِ (مَرْيَم ) :

(-لقد صِرتُ وَحيداً….

أنا وَحيدٌ يا مريم.. وحيدٌ يا ابنتي.. فتصَرّفوا بما ترَونهُ مناسِباً..)

وبعدَ مُشاوَراتٍ بينها وبين زوجِها، قرّرا السفرَ لإحضارهِ ليعيشَ ما تبقّى لهُ من عُمرٍ، بينهم.. مُعَزّزاً، مُكَرّماً.. إلى أن يتوَفاهُ اللهُ تعالى.. وإبلاغِهِ بقرارِهما هذا، دون تحديدِ موعِدِ السفر..

كانت أسرةُ عادِل، تعاني من الضيقِ المادّيّ الشديد.. وكانَ قد أصبحَ نزِقاً جداً…

و مَريَم، كانت ماتزالُ شاحِبةً، ومُرهَقةَ الجسمِ والرّوح.. مُشَتتة.. مَقهورة…

-لا عَليكِ، يا مَريَم… سنسافرُ أنا وأنتِ في القريبِ العاجِل.. سأستدينُ أيضاً، حتى أوَفّقَ ببيعِ قطعةِ أرضٍ أخرى، بعدَ عَودتنا، إن شاء اللهُ، بالسلامة…

وَضّبَ الزوجانِ البيتَ.. وحَمّلا مسؤوليةَ إدارتهِ إلى (سَميرَة ) أخت عادِل الصغرى، غير المتزوّجة.. وسافرا بالطيارة، من مطار (دِمَشقَ ) مُروراً بالعاصِمةِ البُرتغالية (لِسْبوّا ) لشبونة.. وعندما اقترَبتِ الطائرةُ من مطارِ(بْوينوس آيرس ) أبلغَ برجُ المُراقبةِ طاقم القيادة، أن المطار مغلق، بسبب عاصفة قوية.. فعادت الطائرة لتهبط في مطار عاصمة الأورغواي” مونتيفيديّو”.

تحدثت بعض النسوة للركاب :

-الحمد لله أنكم عدتم سالمين.. لأنه منذ مدة، كان فريق كرة قدم أرجنتيني ذاهباً إلى التشيلي.. كان الضباب كثيفاً.. فاصطدمت الطائرة التي تنقل الفريق، بجبال “لوس آندوس ” وسقطت فوق الثلج الكثيف.. حيث لقي أكثرهم حتفه.. أما البقية، فقد اضطروا إلى أن يأكلوا لحم أصدقائهم الميّتين.. لأن فرق الإنقاذ عجزت عن العثور عليهم.. فبقوا هناك مدة طويلة، قبل أن يوفق فريق إنقاذ من اكتشاف مكان سقوط الطائرة، وإنقاذ من تبقى من أعضاء الفريق…

كانت الساعة تقارب العاشرة مساءً، عندما حطّت بهما الطائرة، في مطار (بوينوس آيرس ) في أواخر شهر كانون الأول عام 1972م…

استقلاّ حافلة إلى المدينة، التي كانت تحتفل بعيد الميلاد المجيد…

السيارات تطلق أبواقها.. والناس يُخرجون رؤوسهم من نوافذها، مُطلِقين صيحات، وغناء.. والشوارع كلها مزينة بأبهى صورة..

لم تكن هناك سيارة أجرةٍ فارغةً، ليستقلاّها، قاصِدَينِ بيت خالها، الذي يقع في حارةٍ على أطراف العاصمة…

تمَشّى الزوجان قليلاً.. عادِلُ يحمل الحقيبةَ الكبيرة.. ومَريَمُ تحملُ كيساً صغيراً، وحقيبةَ يدِها…

وفي كلّ زاويةٍ، كان هناك عاشقان يتعانقان بحَميمية.. وربما كان الجميعُ سُكارى…

وكلما اقترَبا من عاشقَين، ليسألاهما عن الطريق المؤديةِ إلى “خوسي إن خينييرو “.. شارع “روساريو 205 “.. دَلّهما العاشقانِ، بدِقةٍ، على طريقٍ طويلة.. لكن.. ما إن يمشيا فيها قليلاً، حتى يسمَعا ضحكات العاشقين الساخرةِ، الماجِنة.. فيعرفا أنهما قد خُدِعا…

لكن، وبعد أن هَدّهما التعبُ، وَفقهما اللهُ بتاكسي، يظهر أنّ صاحبها كان قد تعِبَ من الإحتفالات، وأرادَ أن يعودَ إلى بيته.. فطلَبا منه إيصالَهما.. قال :

-كم تدفعان..؟!

ففرَشا لهُ الأوراقَ الماليةَ، ليأخذ ما يريد.. فأخذ مايريد، وأوصَلهما…

وعندما قرعا الجرَس، أطَلّ ابنُ خالها “حَكيم ” من النافذةِ العُليا، ونزل الدّرَجَ، بسرعة.. فتحَ الباب :

-أهلاً وسَهلاً..

قالت مريم لزوجها :

-لم يعرف مَن نحن…

لأنّ الفجرَ لم يكن قد أضاءَ الكونَ، بشكلٍ كافٍ..

وعندما رَحّبَ بهما على البابِ، مرةً ثانيةً، وهوَ يصافحهما…

سأله عادِل :

-“أهلاً وسَهلاً ” بمَن..؟!

قال ببداهة :

-بمَريَم وعادِل..

-واللهِ إنكَ فَطين…

تسعةَ عشر عاماً، لم تكن كافيةً لتُزيلَ صورَتهما من ذهنه…

أيقظَ أمهُ.. وكانت أخته (نجمة ) نائمة.. منذ أيامٍ أحضَروها من مَشفى المَجانين.. “جَنّنها زوجُها.. ألله لا يسامحه.. تعذبت كثيراً.. يا ألله كم كانت حُلوَةً، وخلوقة.. !! إييييه… ألله يرحمها..!! “…

لم تكَد زوجةُ خالِها تصدّقُ أن هذه هي مريم، وزوجها عادل..

وبعد عناق طويلٍ، ودموعٍ، وكلماتٍ حارّة…

“ألله يرحمك، يا سَكينة.. لو أنكِ الآنَ حَيّة..!! “

-عيني.. عيني مريم وعادل.. من رائحة الأهل.. من رائحة الوطن.. أكيد جائعَين.. ماذا تأكلان..؟! أنا عاملة “كبّات ” مثلما نعمل في سورية…

-لسنا جائعَين.. نريدُ مَتّة، فقط…

وبعد المتة.. كان الطعام..

تبادَلنا الإستفسارات عن حالِنا وحال الوطن والغُربَة…

سألنا ابن خالي إن كانت عنده سيارة.. قال :

-عندي سيارة.. لكنني سأرسلكما بالحافلة.. فذلك أكثرُ راحةً لكما، ولي…

رافقَنا حتى موقفِ الحافلات…

ومنذ أن انطلقتِ الحافلةُ، يا بَتول.. لا أعرفُ ماذا حَصَلَ لي.. قلبي يدقّ بسرعةٍ، يا ابنتي.. وجسمي يرتجف.. وأكادُ لا أنقطعُ عنِ البكاء…

بقينا أنا وأبوكِ صامِتَين.. كلٌّ منا يترَقّبُ، بقلقٍ بالِغٍ، لحظاتَ الوُصول…

أُصِبتُ بحالةٍ من الإسهالِ الحادّ، والمُفاجئ.. فطلَبتُ من السائقِ أن يقِف :

-أنا منزعجة.. معدتي تؤلمني.. “إستوي ديسكومبويستا “.. “مي دويلي لا بارّيفا “…

فأوقَفَ الحافِلةَ، ونزلتُ لأقضي حاجَتي قربَ عّجلاتها.. حاوَلَ أبوكِ أن يخفّفَ من انفِعالي، دون جَدوى.. فقد كانَ منفعِلاً أيضاً، إلى درَجةٍ كبيرة…

راحَتِ الذكرياتُ تتتالى في مُخيّلتي….

طفولتي، وشبابي.. زواجي، وإنجابي.. أبي، وأمي…

كيف سأدخلُ الدارَ، و لا أجدُ أمي..؟!

كيف سيكون الوَضعُ، بعد رحيلِها..؟!

توقّفتِ الحافلةُ في نفسِ المَوقفِ الذي كانت تقفُ فيهِ، قبلَ تسعة عشرَ عاماً.. “كولّيكتيغو “.. مَحَطةُ الباصات.. في نفسِ الشارِعِ الذي فيهِ بيتُنا..

“كورونيل ميليان 165 “… هذا هوَ شارِعُنا….

تدَفقت الذكرياتُ دفعةً واحدة.. وعادِل يحمل الحقيبة الكبيرة.. وأنا أسير بجانبهِ، حاملةً الكيسَ، وحقيبةَ يدي.. كلانا صامتٌ، ومتوتّرٌ بشكلٍ كبير…

هذا هوَ دارُنا……………

هذهِ شجرةُ التوتِ التي زرعها أبي… لقد أصبحَت كبيرةً جداً…

قرَعنا الجَرس…………

هل كان المِفتاحُ في الخارج..؟! أم أنّ البابَ الخارجيّ كان مفتوحاً..؟!

والله لا أدري…

كل ما أذكرهُ، أنني كدتُ أقعُ، عندما سمعتُ صوتَ فتحِ البابِ الداخليّ.. وصوتَ خطوات أبي الشيخ، وهوَ يجرّ قدمَيه على البلاطِ، متقدِّماً نحوَ الباب.. وأنهُ، عندما تفاجأ بشَخصَينِ يُقابلانهِ، وَجهاً لوَجهٍ، يحاوِلانِ الدخول، ارتجَفَ جسمُهُ النحيلُ، من أعلى رأسهِ، حتى أخمَصِ قدَميه.. وتراجَعَ خطوَتين إلى الخَلفِ، وهوَ يرفعُ يديهِ، مُحاوِلاً رَدّ اعتداءٍ، كان متأكّداً أنه سيقع عليه.. فقد كان اعتداءٌ مشابهٌ قد وَقعَ على عربيّ آخرِ منذ وقتٍ قريب.. وُجدَ العربيّ مقتولاً، دون أن يُعرَفَ قاتِلهُ، أو سَبب قتله…

صَرَخَ بنا :

-مَن.. مَن أنتما..؟! ابتعِدا عني.. ماذا تريدانِ مني..؟؟!!

-أنا مَرْيَمُ يا أبي.. مَريَم.. وهذا زوجي عادِل…

-مَريَم، مَن..؟! تَبَعْ مين..؟!

-أنا ابنتُكَ مَريَم.. مريم يا أبي.. ألم تعرفني..؟!

حَدّقَ بنا كثيراً، وهوَ يحاوِلُ طمأنةَ نفسِهِ، ويرخي ساعِدَيهِ بالتدريج، وبشكلٍ بَطيء :

-مَريَم.. مَريَمُ ابنتي..؟! ابنتي أنا..؟!

إذا كانَ هذا صَحيحاً، فأنا خُلِقتُ من جَديد….

ضَمَمتُهُ بقوّة.. وضَمّني بما تبقّى لديهِ من قوّة.. أخَذَ يشدّ جسمي إليهِ، ويبكي.. يبكي بمَرارةٍ، وبصَوتٍ مُرتفِعٍ، وهوَ يُرَدّد :

-ابنتي أنا..؟! مَرْيَم…!! الحمدُ لله.. الحَمد لله….

أينَ أنتِ يا سَكينة..؟!!

كان أبوكِ قد تهالَكَ من البكاءِ والنحيبِ، وهوَ يرى هذا المَشهَدَ بالغَ التأثيرِ، فارتمى على مقعدٍ مجاوِرٍ للمقعدِ الذي جَرّني أبي، وجلسَ عليهِ، ووَضعني في حضنِهِ، كأنني ما زلتُ طِفلتهُ الصغيرةَ المُدَلّلة.. وهوَ يبكي، ويمسَحُ على رأسي، ووجهي، وساعِدَيّ، برِقّةٍ وحَنانٍ، وهوَ يتأمّلني، غيرَ مُصَدّق…………

كنتُ أندبُ أمي، وأدعو لها بالرّحمة.. وعندما أنهَكَني البكاءُ والندب، راحَ أبي يُعزّيني :

-هذه هيَ حالُ الدنيا يا ابنتي.. كلّنا زائلون.. فلا تبكِ.. لا تقهريني أكثر يا مريم.. إنه القدَر.. إنها مشيئةُ اللهِ، الذي يفعلُ ما يشاء.. وكلّ مايفعله هو حَقّ.. وعلينا قبوله، والتأقلُم معه…

استرَحنا قليلاً، قبلَ أن أقومَ لأتفقّدَ البيتَ والدارَ والحديقة..

كانت ستائرُ أمي التي حاكَتها بيديها، وثبّتتها على نوافذِ وأبوابِ البيتِ كلّها، من أعلى السقفِ، حتى بلاطِ الأرض.. ماتزالُ كما هيَ..

أذكرُ أنّ لونها كان زهرياً، لكنها، عندما لاحظت أنّ لونها تغيّرَ قليلاً، بفعلِ الشمس، فكّتها، وغسَلتها، وصَبغتها من جديد، باللونِ البيج.. وما تزالُ بنفسِ اللون…

كانت تكويها كلها، وتكوي كل قطعة قماش في البيت، حتى ثيابنا الداخلية.. وكلها كانت من صنعها.. وقد علّمتني الحياكة، والتطريز.. فصرتُ أساعدها.. وعندما لاحظت مَيلي إلى هذه الأعمال، وضعتني عند خيّاطة من (بوليفيا ) سوداء البشرة.. كانت لطيفةً جداً معي، ومع بقية المتعلّمات.. وبقيت عندها حتى أتقنتُ الخياطةَ والتطريز، وشغلَ الإبرة، والصنارة، والصوف، وما شابَهَ هذه الأعمال، بشكلٍ كبير.. وصرتُ قادرةً على نقلِ أيةِ “قطبة ” أو “موديل ” من الجورنال.. بمُفرَدي.. وبإتقان…

فتحتُ الخزانة.. كانت كما عهدتُها، مُرتّبة، نظيفة.. فوجئتُ بثيابي التي ترَكتها منذ تسعةَ عشر عاماً، وبعضِ ثيابِ عادِل، وصغيرِنا سليمان.. كانت كما هيَ.. تعبَقُ منها رائحةُ “النفتالين “.. تناوَلتُ عَلاّقةَ بلاستيك دائرية صغيرة، تكرجُ فيها بعضُ حَبات النفتالين.. وَضتها في حقيبتي…

تلمّستُ ماكينةَ الخياطةِ المَطوية.. فتحتُ أدراجَها.. مازالت أصابعُ أميَ النشيطةُ تحوكُ فرقها، وهيَ جالسةٌ على كرسيّ مُرتفِع.. تناوَلتُ عدةَ بَكراتٍ من الخيوطِ المصنوعةِ في الصين.. أسود، وأبيض، ومُلوّن.. وَضعتها في حقيبتي أيضاً…

دخلتُ غرفةَ “الكراكيب “.. شمَمتُ رائحةَ أمي تعبقُ في زواياها أيضاً.. فوجئتُ بكُتبي، ودفاتريَ المدرسيةَ، يعلوها الغبار، وهيَ مُرتّبة في المَكتبة على الحائط…

تصَفحتُ بعضَها.. وكان خطّي مايزالُ يتعثّرُ فوقَ صَفحاتها.. وأقلامي…..

آآآآآآآآه، يا أمي…………..!!

وفي الصباح، ذهَبنا لزيارةِ قبرِها.. وبعدَ أن “عملنا اللازِم “، ونظّفنا الرخامَ من وَرَقِ الشجَرِ المُتناثِرِ فوقه، قال لنا أبي، إنها المرّةُ الأولى التي يجدُ ورقةً فوقه.. ربما لأننا جئنا في وقت مُبْكِرٍ جداً…

كان، كلّما زارَها، يجدُ القبرَ نظيفاً، وباقات الوردِ الموضوعة فوقهُ، جديدة، ومُتجدّدة…

كان زوّارُ القبورِ من جيرانها، يفعلون ذلك…

فقد كانت سَكينةُ طيّبةً، وحَنونة.. وهم يُحاوِلونَ مُكافأةَ تلكَ المرأةِ العرَبيةِ الطيّبة، التي جاوَرَتهم بسلامٍ، حَيّةً، ومَيتة….

في صباحِ اليومِ التالي، استيقظَ “دِيّاس “.. و، كعادتِه كلّ صباح، خرَجَ إلى شُرفة بيتِه.. وقعَ نظرُهُ على مدخلِ بيتِ جارهم العجوز الأرمَل.. امرأةٌ، تكنسُ الرصيف…

التفتَتْ باتجاهِه.. وعندما التقتْ عيناها بعينيه، أخفضتْ وجهَها.. وبعد ثوانٍ، رفعتْ بصرَها نحوهُ، ثانيةً.. فوجدتهُ مايزالُ يحدّقُ بها.. عرفتهُ.. إنهُ “دِيّاس “.. لقد كبرَ.. وكبرنا جميعاً…

حَيّاها :

-بْوين دِيّا..

-بْوينْ دِيّا..

أخفضتْ رأسَها مرةً أخرى، وتابَعت تنظيفَ الرصيفِ، أمامَ بيتِ أهلِها.. وعندما أنهت عملها، دخلتِ الدار.. ولاحظتْ أنّ الجارَ مايزالُ يراقبها، مُتفحِّصاً…

وماهيَ إلاّ لحظات، حتى قُرِعَ الجرس.. وعندما فتَحَ لهُ العَجوزُ، مازَحَهُ الجار :

-مَن هذه التي تكنسُ، يا سليمان..؟! هل فعَلتَها وتزوّجت..؟!

أدخَلَهُ العَجوزُ، بزهوّ :

-تفضّل، يا دِيّاس..

-صحيح، يا سليمان.. هل استأجَرتَ امرأةً لتكنسَ لكَ الرصيف..؟! كنا نحنُ نكنسهُ لكَ، يا رَجُل..!!

كان صالِح يلعَبُ بأعصابِ الجار، مداعِباً إياهُ، وهوَ مَزهوٌّ بوجودِ ابنتهِ وابنِ أخيه عنده.. سألهُ، قبلَ أن يبفدَ صَبرَه :

-مَن تظنّ هذهِ المرأة، يا دِيّاس..؟!

-بالأوّل، طننتُها مَرْيَم.. لكنني لا أتوقّعُ ذلك.. فما الذي يجيءُ بمَريَم إلى هنا..؟! ثمّ.. ثمّ إنّ هذه المرأة “غورْدا “.. ناصِحة..

-وإن كانت مَريَم..؟!

-إن كانت مَريَم..؟!؟! وتقولُها ببساطة..؟!

إن كانت مَريَم، فستلحَقني زوجتي.. فقد أخبَرتُها بظَني، وقلتُ لها :

-أنا ذاهبٌ لأستكشِفَ الأمر.. فإذا أطَلتُ الغيابَ، الحَقيني.. فستكونُ، فِعلاً، مَريَم..

وما هيَ إلاّ لحظات، حتى دَخَلت زوجَتُه…

زارَتني، أيضاً، بعضُ اللاّتي كُنّ زميلاتي في المَدرسة، وأزواجُهنّ..

وزارَني أيضاً، شخصٌ، كان زميلاً لي في المدرسة.. وأخبَرَني أنهُ أصبَحَ مُحامياً.. وعندما تبادَلنا الحديثَ معهُ أنا وزوجي، بشكلٍ مُطوّل…

خافَ أبي أن نكونَ نفاوِضُهُ على الإرث.. فقد كانَ – كَكُلِّ العَجائزِ – يخافُ أن يكونَ مَن حَولهُ يحوكونَ شيئاً ضِدّه.. خصوصاً، أنّ سَمعَهُ كانَ ضعيفاً.. وكذلكَ نظرُه.. فقامَ إلى النافِذة، وسَرّحَ بصَرَهُ بالسماءِ، قبلَ أن يعودَ ليُنذِرَنا بطريقةٍ لم تخفَ على الضيفِ وزوجتِه :

-يا عَفو ألله.. يا عَفو ألله.. السماءُ مُكفهِرّةٌ جداً.. لا بُدّ أنها تُنذِرُ بعاصِفةٍ مَطَرية..!!

وَدّعَنا الزوجانِ بلطافة، وقاما ليعودا إلى بيتهما، قبل انهمارِ العاصفةِ المَطَرية…

ضحكنا معهما، وأودَعناهما السلام..

خمسةً وأربعينَ يوماً، ونحن في الرّوخاس، نفاوِضُ جَدّكِ، ونرغّبه بالعَودة معنا إلى الوطن.. دون جَدوى.. شرَحنا لهُ، كم منَ التضحيات قدّمنا.. وأننا استَدَنا كثيراً، وترَكنا أبناءَنا ، وكلَّ شيءٍ، وراءَنا، من أجلِ أن نعودَ بهِ ليعيشَ بيننا.. وكلُّنا سنكونُ بخِدمتِهِ، ما تبقّى لهُ من عمر…

كان يفكّرُ كثيراً.. ولا يعطينا رأيَهُ الصريح، الذي يبدو أنه لم يكن قد توَصّلَ إلى قناعةٍ للبَتِّ فيهِ، بَعدُ…

كنا نشعرُ بالحَرَجِ البالِغِ، والتوَتّرِ المُرتفِع.. ماذا سنقولُ لمَن عَرف سببَ مَجيئنا، إذا عُدنا خائبين..؟! وكيف سيعيشُ هذا العجوزُ الذي لم يبقَ لهُ أحدٌ يعتني بهِ في آخِرتِهِ هنا في هذهِ الغُربةِ النائية..؟! وكم سنعاني نحن، إن غادَرنا، وتركناهُ وحيداً..؟!

لكنهُ أخبَرَنا، ذاتَ يوم، وبشكلٍ قاطِعٍ، أنهُ لن يعودَ معنا.. وأشارَ لنا إلى مكانٍ لقبرٍ مُجاوِرٍ لقبرِ أمي، قائلاً، وبكلِّ تأكيد :

-هُنا وَطَني.. هنا بيتي.. لا تحاوِلا إقناعي بغيرِ ذلك… لن أتركَ سَكينة.. كما أنها لم تتركني..

ولو ذهبتُ معكما، فماذا كان سيحدث..؟! سيحتفلُ الجميعُ بي، أوّلَ وُصولي.. وبعدها.. سأعذّبكم وتعذّبونني.. فقد اعتَدتُ على نمَطِ حياةٍ مختلفٍ عن نمَطِ حياتكم.. لا أستطيعُ أن أغيّرَ عاداتي.. ولا أنتم بقادِرين على تغييرِ عاداتكم في كلِّ شيء… لا تزعلْ مني ياعادِل.. ولا تزعَلي مني يا مَريَم… أرجوكما اعذراني…….

رافقَنا حتى موقفِ الحافِلاتِ، وهوَ يقترحُ علينا :

-أرسِلوا لي سليمان.. يعتني بي.. وأنا سأكتبُ لهُ كلَّ ما أملكُ، باسمِه…

لكنّ ذلك لم يكُن مُمكناً.. فسليمانُ مايزالُ يدرسُ في الثالثِ الثانويّ.. ولا يعرفُ حَرفاً من اللغةِ السبنيولية…

غادَرنا البلادَ مَقهورَين.. ولم نستطع تقبّلَ عذرهِ حتى الآن…

كنا قد عانينا الكثيرَ، عندما سمعنا أنّ ستّين طائرةٍ إسرائيليةٍ، كانت قد حَلّقت، بشكلٍ استفزازيّ، فوقَ سواحلِ مدينةِ طرطوس.. وأنّ الوَضعَ على الجَبهةِ مع العدوِّ، متوتّرٌ بشكلٍ لم يسبق له مَثيل.. وأنّ الغارات الصهيونية، كانت قد خَلّفت الكثير من الشهداء، بعضهم من معارفنا…

وفي شهر شباط عام 1973م حَلقت بنا الطائرة، عائدةً إلى الوطن.. قلوبنا مليئة بالقهرِ والخزلان.. بكينا كثيراً أنا وعادِل.. بل، ربما يكون، هذه المرة، قد بكى أكثر مني بكثير…

***

بعدَ سنوات، جاءت رسالة  من أحد أبناء العرب، الذين كانوا يحترمون “عَمّهم ” الشيخ صالح سليمان، إلى درجةٍ تشبه القَداسة.. فقد كان له بمثابة الأب.. ربّاهُ منذ كان صغيراً ويتيماً وفقيراً، ولم يبخل عليه بعاطفةٍ، ولا بمال.. إلى درجة أنه سلّمه أمانةً.. عبارةً عن بعضِ النسخ من القرآن الكريم.. والكتب التراثية، المخطوطة والمطبوعة، ليستزيدَ بها من عُلوم وطنه.. ويبقى محافظاً على هُويته، وينفع بها مَن يراه جديراً، من إخوته العرب الآخرين، في تلكَ الغُربةِ النائية…

تقول الرسالة، أن مُرسِلها ما يزالُ يعتني بعمه الشيخ العجوز، بطلبٍ منهُ، منذ سنوات.. وهو يعطيه أجرَه، وزيادة.. وقد كتب له جزءاً من أملاكه.. وهو الآن مريض.. وقد أدخله المشفى منذ مدة.. ويستشيرهم ماذا عليه أن يفعل.. والشيخ يبدو أنه سيُتوَفى قريباً..؟!

فأرسَلت له مريم رسالةً، بطلبٍ من زوجِها، أن (عَظّمَ الله أجركم.. لقد طمأنتنا كثيراً.. افعَلْ ما تراهُ مناسباً.. فلولا ثقة أبي بك، لما طلب منك العناية به.. ولما ائتمنك على كل ما يملك..)

وفي أحد أيام شهر تموز من العام 1982م، أرسل الرجل رسالة أخرى، يخبرهم أنّ الشيخَ قد توفي.. وأنه أقام له جنازة كبيرة، حضرها حَشدٌ كبير من أبناء العرب، والأجانب.. ودفنوه – كما أوصاهم – في قبرٍ مُجاوِرٍ لقبرِ زوجته.. وعملوا له أسبوعاً كبيراً، دَعوا إليه الكثيرَ من الناس المُحبين.. ووزعوا الزكاةَ عن روحهَ الطاهرة، للفقراء والمساكين.. والأرامل واليتامى…

ويسألهم، ماذا يفعل بالقليل الباقي من أملاكِ الشيخ..؟! وأهَمها، البيت الذي صار قديماً جداً…

فأرسلوا له رسالة جوابية :

-عظم الله أجركَ وأجر زوجتك، لإخلاصكما في خدمة الشيخ.. ومن ناحية البيت، نرجو أن تبيعه، وأن ترسل لنا نصف ثمنه، وتأخذ النصف الباقي.. فهو حقك…

وكان ذلك..

وفي صباح أحد أيام خريف العام نفسه، استلمت مريم رسالة من الأرجنتين.. وهي عبارة عن صحيفة، مُرسَلة من أحد أبناء العرب هناك.. وما إن فتحتها، حتى قرأت عنوانها :

(لا فوس دي روخاس ) أي (صوت الروخاس ).. عددها الصادر في العاشر من شباط فبراير عام 1979م فيها صورةٌ بالأبيض والأسود، لأبيها الشيخ العجوز، وهو في حديقة بيته في شارع “كورونيل ميليان 165 “.. مع نبذة غير دقيقة عن حياته.. عنوان المقال :

“يُكمِلُ عامَه التاسع والتسعين، المُحترَم الشيخ صالح سليمان.. هكذا تقول هويته..”

يحكي المقال ملخصاً عن حياة الشيخ صالح سليمان، العربي السوري الذي هاجَرَ من بلاده عام 1910م وأقامَ في عدة مناطق من الأرجنتين.. “مِندوسا “.. “كوردوبا “.. “سان خوان “.. “سان رافائيل “.. واشتغلَ في عدة أعمال، منها التجارة.. عادَ إلى وطنه ليتزوج عام 1924م.. وعاد إلى الأرجنتين في عام 1930م  ليستقرّ في مدينة “الروخاس ” ويشتغل بالتجارة.. حيث أنّ تجارته كانت أحياناً تصلُ إلى تْشيلي.. أسّسَ جمعيةً من أبناءِ العرب.. تعتني بشؤونهم.. كان نشيطاً دائماً.. لم يترك العمل يوماً.. لكنه الآنَ يعيش وَحيداً بعد وفاة زوجته.. وما يزالُ بكامِلِ قواهُ العقلية.. وذاكِرته على خير ما يُرام.. يعمل في حديقة بيتهِ، رغمَ كِبَرِ سِنّه.. ينقّيها من العشب.. يحفرها.. يسمّدها.. ويسقي نباتاتها وأشجارَها.. إلخ

يبدو الشيخ في الصورةِ، حزيناً، نحيلاً.. يرتدي قميصاً أبيضَ.. تبدو على وجههِ الشاحبِ، آثارُ العِراكِ معَ السنين…..

أرجوكِ، يا إيزابيل.. أن تزوري جَدّيّ…

فهما يقيمان في قبرَينِ مُتجاوِرَينِ من مَقبرةِ مدينةِ الروخاس..

و – كما ترَينَ، يا إيزابيل – فالقبرانِ ما يزالانِ ينبضان……

 

انتهَتِ الرواية

المْرَيقِب، في 31 – 3 – 2008م

فاطمة صالح صالح

 

شرح بعض المُفرَدات الغريبة

 

-عِدْل = كيس من الخَيش

-الناوْلون = إجرة الطريق

رسّاك = قائد عسكري فرنسي

-بَيتون = تصغير لكلمة “بَيت ” بالتعبير الشعبي

-بَشلوقَة = لفظة غير عربية، تعني “حِذاء قديم “

-جْمَيِّم و قْليتي = أواني تراثية شعبية، تُصنع من قشّ القمح.. لها استعمالات متعددة، معروفة في الساحِل السوري

-أكْبي = أخفِضُ رأسي في شِبهِ إغفاءَةٍ، وأنا جالسة

-الدّسْت = وعاء نحاسي كبير

-رزق الدّشار = الرزق الذي أهمَله صاحبه

–السّدّون = وِعاء مصنوع من الطين الأبيضِ الممزوجِ بالقشّ.. شكله مِغزليّ.. كان يُستخدَمُ، قديماً، لحفظِ الحُبوب

 

الشاعرة والروائية العربية السورية فاطمة صالح صالح

مواليد 14 – 10 – 1953م في قرية المْرَيقِب التابعة لمدينة الشيخ بدر في محافظة طرطوس

الأعمال الأدبية المطبوعة :

1-رواية بعنوان (صَلاةٌ.. لغيومِكِ القادِمة ) الطبعة الأولى عن دار أعراف  طرطوس عام 2006م وطبعتها الثانية عن دار التكوين  دمشق عام 2007م

2-مجموعة شعرية بعنوان (زهرةٌ.. فوق الرماد ) عن دار بعل  دمشق عام 2007م

3-رواية بعنوان (مجنونةُ الخَصيبة ) عن دار التكوين  دمشق عام 2007م

نشرت أول قصيدة في جريدة (الأسبوع الأدبي ) التي كان يرأسها الشاعر عبد القادر الحصني عام 2001م

نشرت في (مُلحق الثورة الثقافي ) الذي كان يشرف عليه الأديب حسين عبد الكريم

نشرت لها مجلة (صدى ) الإماراتية قصيدة (شرقيةٌ.. أنا ) منذ عدة أعوام

نشرت في مجلة (عشتروت ) الصادرة عن مؤسسة الناطق في كندا.. رئيس تحريرها يعقوب قريو

نشرت في  جريدة (الوحدة ) و مجلة (عمريت ) و (الفرات )

شاركت في عدد من الأمسيات والمهرجانات الأدبية في قريتها ومحافظتها وفي دمشق “كفر سوسة ” و “المزة “

شاركت في (مهرجان الشعر العربي الأول ) في مدينة الرقة الذي أقيمَ من 25 إلى 30 أيلول عام 2005م

شاركت في (أيام الثقافة والفن والأدب العالمية الرابعة ) بدعوة من اتحاد الثقافة والفن آلن – أنطاكيا الذي أقيم في 28 – 29 – 30 نيسان عام 2006م صاحب الدعوة، رئيس الهيئة الإدارية أ. محمد قره سو

وكانت الشاعرة العربية الوحيدة هناك.. ولاقت مشاركتها استحساناً جيداً.. وقد عَلّقَ أحد النقاد بقوله باللغة التركية :

” استمعتُ لقصيدة الشاعرة السورية فاطمة صالح صالح.. لم أفهم شيئاً.. لكنني أحسست بكل شيء.. ليتها تُرجِمت إلى التركية..! “

تتابع الآن الكتابة والنشر في عدد من الصحف المحلية والعربية

(نبضُ الجُذور ) هي الرواية الثالثة للأديبة

_____________________________________________________

 

Facebook
Twitter
Telegram
WhatsApp
Print

إقرأ أيضامقالات مشابهة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

تابعونا على فيس بوك

مقالات